البطل القادم من عشوائيات الهند إلى قصر الحكم
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 22 مايو 2014 - 5:00 ص
بتوقيت القاهرة
الهند مجتمع غرائب ومتناقضات. لم أنس تلك الليلة التى شهدت وصولى إلى مطار بومباى. كانت الليلة التى عرفت فيها أن الهند ستكون بالنسبة لى تجربة نادرا أن أمر بمثلها. شاب فى مقتبل عمره، نشأ فى مجتمع غير معقد وغير مركب، يكاد يخلو من التناقضات الصارخة. شاب لعله لم يقابل خلال مرحلتى النشأة والمراهقة مشاهد تعكس تطرفا فى السلوك الاجتماعى أو الدينى، وجد نفسه ذات ليلة فى دولة نسيجها من خيوط متشابكة وألوان مبهرة. يمر فى طريقه من المطار على فندق مشيد ليكون شاهدا على هيبة العهد الإمبراطورى، ويبدأ سيل أسئلة لم يتوقف حتى يومنا هذا. أكان من الممكن شق طرق بهذا الاتساع ومبانٍ بهذه الضخمة وروعة البناء لو لم تتشكل ذات يوم قبل اربعة قرون شركة الهند الشرقية لتلحق بها جيوش الإمبراطورية البريطانية؟ جاءت الإجابة قبل مرور أسبوع حين وقفت مشدوها أمام القلعة الحمراء فى دلهى ومغرما أمام تاج محل، وهما التحفتان المعماريتان الشاهدتان على حضارة سلالات المغول.
على باب الفندق الذى مررت به فى الطريق من المطار يقف حرس بملابس مزركشة وقبعات تزينها ريشات طويلة. وعلى امتداد الرصيف المقابل للفندق وقفت عربات تلمع تحت ضوء مصابيح الشارع وهى مربوطة إلى خيول سمينة تشى بخير وفير. وما هى إلا أمتار قليلة وكان التاكسى المتهالك الذى يقلنى يدخل أحياء، لم يدر بخلدى من قبل أنها يمكن أن توجد. لم يكن بمصر، حتى فى ذلك الحين البعيد ما يوازيها فقرا وقذارة. انتهت رحلتى من المطار فى شيء يشبه النزل، وبدقة أكثر، فى غرفة صغيرة بدون شباك، ولكن بها سريرا حديديا أكل الصدأ بعض أطرافه ومائدة خشبية بثلاث أرجل وكرسى منتهى الصلاحية. المائدة والكرسى فى وسط الغرفة تماما ليكونا تحت مروحة كبيرة فى السقف تدور بلا كلل وبصوت لا يحتمل.
صباح اليوم التالى كنت جالسا على مقعد بالدرجة الأولى فى طائرة متوجهة من العاصمة التجارية إلى نيودلهى العاصمة السياسية، أتناول افطارا إنجليزيا شهيا، وإلى جانبى شاب هندى عائد من اكسفورد فى زيارة طارئة لأهله. هؤلاء الأهل الذين شاءت الظروف أن أزورهم فى «مجمع» قصورهم الكائن فى بطن أحد جبال شمال الهند. هناك نزلت ضيفا أحظى بخدمة العشرات من رجال يرتدون الملابس نفسها التى رأيتها وأنا مار بالتاكسى على فندق تاج محل فى بومباى، هؤلاء بينهم خدم وحرس وطهاة ومربو خيول وموسيقيون.
•••
تذكرت هذه الأيام المبكرة من إقامتى فى الهند، وهى الإقامة التى تخللتها صدمات متعاقبة وتجارب عديدة، تذكرتها وأنا أتابع بشغف الانتخابات النيابية التى جرت مؤخرا فى الهند وانتهت قبل أيام بإعلان فوز التحالف الذى يقوده حزب بهاراتيا جاناتا واختيار نارندرا مودى رئيس الحزب ليشكل حكومة مركزية فى نيودلهى ويتولى رئاستها.
اسمع عن الحزب والرجل منذ سنوات عديدة، هو أقرب شيء ممكن من صيغة الأحزاب «الدينية» فى العالم العربى التى انتشرت كالفقع، وبخاصة الإخوان المسلمون. إلا أنه يختلف عنهم فى أمر جوهرى وهو أنه «قومي»، بمعنى أنه لا يفصل بين الولاء للدين والولاء للوطن، فالهندوسية من منظور قادته واتباعه هى دين وأمة ووطن هو الهند. الهند، بالنسبة لعقيدة الحزب هندوسية ويجب أن تبقى هندوسية. بهذا المعنى يكون المسلمون، ويبلغ عددهم 160 مليون شخص، أى بنسبة 9٪ من السكان، ضيوفا غير مرغوب فى استمرار بقائهم فى الهند. المسلمون، حسب منطق هذا الحزب الفائز بأهم انتخابات تجرى فى الهند منذ الاستقلال، غرباء على الوطن.
•••
لاحظنا، على كل حال، أن الحزب لم يستخدم فى حملته الانتخابية هذه الدعوة بكثرة أو بتركيز، أما رئيسه فاكتفى دائما بترديد عبارة انه سيكون رئيسا لجميع الهنود، وهى عبارة مألوفة فى كافة الانتخابات سواء تلك التى تجرى فى نظم ديمقراطية أو فى دول شمولية. مراقبون سياسيون من الذين اهتموا اهتماما شديدا بهذه الانتخابات، كتبوا ينصحون السيد «مودى» أن يظهر إيجابية أكثر عند الحديث عن قضية الأقلية الإسلامية. يأخذون على مودى انه عندما كان رئيس للوزراء فى ولاية جوجارات ونشب نزاع على أرض قرر المسلمون والهندوس معا انها تخصهما، وتدهور الخلاف إلى نزاع دموى راح ضحيته المئات وأغلبهم من المسلمين، لم يتدخل وتأخر وصول قوات الأمن. لم يعتذر «مودى» إلى هذه اللحظة عن تقصير حكومته وتطرف أعضاء حزبه، بل وينقل عنه انه قال «أشعر احيانا بالأسف ولكنه كأسف قائد سيارة دهس كلبا فقتله».
لكن «مودى» السياسى والزعيم ليس فقط هذا الرجل، ففى نظر المصالح المالية الكبرى، وبخاصة فى دول الغرب، هو النموذج «النيوليبرالي» الأصلح والأقدر على تحقيق نقلة نوعية فى الهند تتفوق بها على الصين، أو على الأقل تقترب بها من معدلات نموها ونجاحها، هذا على الأقل ما فعله بولايته الصغيرة جوجارات الواقعة على المحيط الهندى والمتاخمة لباكستان، إذ استطاع خلال عقد واحد من الزمن أن ينقلها من حال بؤس إلى حال مختلف تماما، حتى صارت وهى الولاية ذات الستين مليون مواطن هندى، أى بنسبة 5٪ فقط من سكان الهند تصدر إلى الخارج ما نسبته 25٪ من مجمل صادرات عموم الهند.
اهتمت إسرائيل بالرجل وولايته منذ أن تولى الحكم فيها حزب بهاراتيا جاناتا واستثمرت فيها، وكذلك الشركات الغربية عابرة الجنسية، واجتمع كبار اصحاب المليارات الهنود على ضرورة دعم مودى وتحالفه، بعد أن بلغ بهم اليأس من سوء أداء حكومات حزب المؤتمر حدا لم يعد ينفع معه الاستمرار فى التعاطى بأسلوب الفساد الذى تعود عليه الهنود أغنياء وفقراء، وحكاما ومحكومين. قيل إن حزب مودى فى جوجارات استطاع «خصخصة» قطاعات كبيرة من الاقتصاد وقلص الفساد إلى حدود دنيا. وقد أعلن لحظة دخوله نيودلهى منتصرا انه «لن يسمح لأقاربه وأصدقائه بمقابلته، ولن يصغى إلى طلباتهم وشكاواهم. أمامهم مؤسسات الدولة فليلجأوا إليها.
لا يأخذون على البطل القادم ليحكم ثانى أكبر تجمع سكانى فى العالم ممتطيا حصان الانتخابات عدم إيمانه الصادق أو الشديد بالديمقراطية. لا يأخذون عليه أنه لم يمارس من الديمقراطية فى جوجارات إلا الانتخابات. الديمقراطية، بالنسبة لرجل بدأ حياته بائعا للشاى فى محطة قطارات وعاش بعض سنوات عمره منبوذا ويحلم بقيادة أمة صالحة ومنضبطة، انتخابات، لا أكثر ولا أقل.