نشر موقع project syndicate مقالا بتاريخ 19 مايو للكاتب روبرت سميث والكاتبة إلانا بيت ــ إل، تناولا فيه سبل استعادة ردع حلف الناتو بعد شن روسيا حربها ضد أوكرانيا.. نعرض من المقال ما يلى. بينما يجتمع فى بروكسل قادة منظمة حلف شمال الأطلسى (الناتو) العسكريون لمناقشة الحرب الدائرة فى أوكرانيا، تتمثل القضية الأخرى التى تشغل أذهانهم فى المفهوم الاستراتيجى القادم للحلف، والذى سيحدد أولوياته لسنوات مقبلة. وهنا، أظهر سلوك روسيا أن إعادة تأسيس الردع يجب أن تلعب دورا مركزيا.
عندما بدأت روسيا تحشد قواتها على حدود أوكرانيا فى أواخر العام المنصرم، شرعت على طريق العدوان ليس ضد أوكرانيا فحسب بل وأيضا ضد ما تسميه الغرب «الجمعى»، وخاصة الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى. كانت روسيا تسعى إلى ردع أوكرانيا والغرب عن التعاون المتزايد، فى حين كان الغرب يحاول ردع روسيا عن العدوان. ويأتى الغزو اللاحق نتيجة لفشل الردع الذريع.
حشد الأوكرانيون دفاعات مبهرة، واستمر الاتحاد الأوروبى، وحلف شمال الأطلسى، وشركاء وحلفاء غربيون آخرون فى تشديد العقوبات الاقتصادية والمالية وتقديم المساعدات. لكننا انزلقنا إلى حلقة بالغة الخطورة من التصعيد. يتطلب الوضع سبل ردع يمكن التعويل عليها وتذهب إلى ما هو أبعد كثيرا من «المظلة النووية» التقليدية.
فى كل الأحوال، لا ينحصر الردع فى الحرب النووية. إن الردع وثيق الصِـلة بكل أشكال المواجهة ــ سواء فى عالم الأعمال أو فى ساحة المعركة. والعديد من هذه الديناميكيات حاضرة فى الصراع الحالى. كانت علاقات الطاقة التى تتسم بالاتكالية المتبادلة بين روسيا وأوروبا تعتبر رادعا قويا على الجانبين؛ لكنها فشلت بكل وضوح.
• • •
يدور الردع حول إقناع أحد الخصوم بأن الامتناع عن القيام بشيء ما يحقق مصالحه على أفضل نحو. فى مستهل الأمر، حاولت روسيا ردع أوكرانيا والغرب بنشر قواتها على طول الحدود الأوكرانية. ولكن بينما كانت تنشر قواتها، أذاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى حلف شمال الأطلسى معلومات استخباراتية وبيانات يومية تكشف تحركات القوات الروسية، وأظهر هذا للكرملين بوضوح أن خصومه يعرفون ماذا يفعل على وجه التحديد. وتُـعَـد مثل هذه الإشارات أول عناصر الردع.
يتمثل عنصر أساسى آخر من عناصر الردع فى الاعتقاد بأن الـخِـصم يتمتع بما يلزم من الإرادة والقدرة لتصعيد التدابير إذا لم يغير الطرف الآخر مساره. وعندما أعلنت روسيا عن سلسلة من المطالب المصممة لتسليط الضوء على نقاط ضعف أوكرانيا وحلف شمال الأطلسى ــ من وضع أوكرانيا كدولة إلى البنية الأمنية الأوروبية فى عموم الأمر ــ لم يجد جمهورها فى تهديداتها أى مصداقية.
باستثناء الولايات المتحدة، تصور قليلون أن روسيا قد تُـقـدِم على شن غزو كامل النطاق أو تستمر فى إطلاق التهديدات ضد الناتو والدول المحايدة. مع ذلك، نفذت روسيا الغزو بالفعل وأطلقت منذ ذلك الحين تهديدات نووية مستترة بل وحتى أجرت اختبارا على صاروخ فرط صوتى جديد.
على نحو مماثل، لم يأخذ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على محمل الجد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والمستشار الألمانى أولاف شولتس، وغيرهما من قادة الغرب عندما أعربوا عن نيتهم دعم أوكرانيا. استمع الكرملين إلى هذه التصريحات، لكنه سمع أيضا العديد من القادة الآخرين، بمن فيهم الرئيس الأمريكى جو بايدن، يقولون إنهم لا يعتزمون إرسال قوات للدفاع عن دولة خارج عضوية الناتو. وعلى هذا فقد قررت روسيا شن غزوتها، لكنها فوجئت بنطاق وشِـدة الرد الغربى.
من جانبها، كانت استراتيجية الردع التى تبنتها أوكرانيا تتلخص أساسا فى إبراز صورة لذاتها كدولة تنتمى بالفعل إلى الغرب. ورغم أن الكرملين لم يقتنع، فمن الواضح أن روسيا استهانت بالوحدة الأوكرانية وقدرة وكفاءة الجيش الأوكرانى، حتى برغم أنها كانت تحارب قوات أوكرانية منذ توغلاتها فى البلاد عام 2014.
يذكرنا دفاع أوكرانيا البطولى عن الذات بأن أناسا عاديين يعيشون خارج ساحة المعركة وعالَـم المال والأعمال، بعيدا عن العقوبات والمؤسسات: فالحرب تدور رحاها بينهم، وهم الذين سيقررون نتيجتها النهائية. برغم أن إرادة الأوكرانيين فى الدفاع عن حياتهم، وديارهم، ومُـثُـلـهم لم تردع القيادات الروسية بعد، فإن الأمر لا يخلو من أدلة قوية تشير إلى أن هذه الإرادة أثنت عددا كبيرا من الجنود الروس عن القتال.
• • •
بالنظر إلى المستقبل، يجب أن يصبح الردع الغربى هدفا استراتيجيا أساسيا، وبالتالى أكثر شمولا، بما فى ذلك كل العناصر المهمة. وقد اتخذ وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن خطوة فى هذا الاتجاه عندما أعلن أن أحد أهداف أمريكا الآن يتلخص فى «إضعاف روسيا إلى الحد الذى تعجز معه عن القيام بذلك النوع من الأفعال التى ارتكبتها فى غزو أوكرانيا». وسوف تعمل فاتورة الإقراض بقيمة 33 مليار دولار أمريكى التى وقعها بايدن فى التاسع من مايو على تعزيز هذا الهدف.
لكن هذا لا يكفى. يجب أن يكون الردع هدفا شعبيا يحظى بدعم شعبى واسع النطاق. كما يجب أن يكون مدعوما من قِـبَـل دول أخرى، لأن التعاون الدولى يشكل ضرورة أساسية لضمان أمن الدول الأصغر حجما، والأكثر ضعفا. يتطلب تحقيق مثل هذا الدعم العريض النطاق قيادة فعّـالة مُـلهِـمة من ذلك النوع الذى أظهره الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى. لقد نجح فى حشد الشعب الأوكرانى بل وأيضا العالم الغربى بالكامل. ويُـحـسِـن القادة الآخرون صنعا بأن يحذوا حذوه.
أخيرا، من الأهمية بمكان أن نتذكر أين يتناسب الردع فى السياق الأعرض للعولمة. لقد اكتسبت روسيا الجرأة بفضل الاتكالية الاقتصادية المتبادلة التى رعتها، وجرى تمكينها بفعل وضعها كعضو دائم فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يتمتع بحق النقض. ويجب أن يشمل الردع تدابير إما لتحييد أو احتواء هذين العاملين.
الواقع أن الحرب التى تدور رحاها فى أوكرانيا كانت نتيجة لعدم كفاية الردع. وفى النهاية لن يتسنى إحلال السلام فى غياب الردع.
النص الأصلى: