مظفر النواب.. أربعة عقود من المنفى
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 22 مايو 2022 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
أولى سنوات الانفتاح أو الخروج من قفص الواقع إلى العالم الواسع، هناك وفى تلك اللحظة حيث تفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها مرحبة بالقادمين إلى عالم آخر ملىء بالحس الثورى والفنى والموسيقى والثقافى حتى يغرقوا هم القادمون من شوارع ضيقة هادئة هناك على أطراف الكون العربى الواسع بمدنه الكبرى وكتابه ومثقفيه ومطابعه وشعرائه.. فاتحين أعينهم وقلوبهم بكثير من الانبهار.. كانت «الريل وحمد» أول سباحة لهم فى شعر مظفر النواب ذاك القادم من العراق وحزبه الشيوعى. هم الذين قيل لهم إن الشيوعيين كفرة وملحدون وألبسهم كثيرون كل الموبقات وما حملته اللغة من مفردات معادية للبشرية والبشر!
• • •
بحثوا كثيرا عن دواوينه هو الممنوع قراءته أو ذكر اسمه ربما فى كل مدن العربان لما واجههم فيه من عداء، مرة لضعفهم ومرات لظلمهم وطغيانهم وكرههم لأى فكرة محلقة خارج قفص العقول المتحجرة. ولكنها بيروت فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات حيث لا حواجز للأفكار ولا سجون للكتب ولا معتقلات للشعراء والمثقفين والسياسيين والمعارضين شيوعيين منهم وقوميين وبعثيين واشتراكيين وتروتسكيين و..و.. صعب على الأدمغة الصغيرة استيعاب المعارك التى كانت تدور بينهم علانية وليس بينهم وبين الأمن والسلطات كما اعتادوا هناك.
• • •
تعرفوا على مظفر النواب ونبشوا دواوينه وتبادلوها وانغمسوا فى الاستماع لأشرطة شعره حتى كان ذاك اليوم الذى قرءوا الإعلان عن أمسية شعرية له فى جامعتهم العريقة.. لم يصدقوا أن الجامعات تستضيف خريجى السجون والمعتقلات والمنافى!! مظفر الذى سجن لأكثر من مرة وهرب من الأمن مرات ومن السجن أيضا ثم عاش أربعة عقود فى المنافى، مرة داخل الوطن ومرات خارجه حتى لفظ نفسه الأخير فى إحدى المدن البعيدة عن بغداد والبصرة و.. استعدوا لتلك الأمسية بكثير من التحضير والقراءات والنقاشات حتى جاء ذاك المساء بنسمة عليلة. اكتشفوا حينها أن مظفر لم يكتب فقط «القدس عروس عروبتكم» و«الريل وحمد» بل هناك كثير من العشق والغزل.. أما مفاجأتهم الكبرى فكانت فى تلك القدرات المتنوعة له من تمثيل وقدرة على الإلقاء وهو يغنى قصائده بكثير من إبداع المالك لأكثر من موهبة.
• • •
لم تجرح آذانهم بعض شتائمه فى أبيات شعره فهو الذى أدخل الشتيمة إلى الشعر دون أن ينزل من مرتبته فى مكانه الإبداعى فقد كان فيه شتم للذات العربية المتهالكة. وهو فى ذلك كان يعبر عن الظلم والقهر الذى يتعرض له الكادحون من فلاحين وعمال دون أن يدرك فى البدء أنهم بعيدون عن قراءة الشعر حتى أن حول قصائده من الدواوين إلى أشرطة الكاسيت وعندما تحولت القصيدة إلى صوت وتمثيل انتشرت بينهم بل وتعدتهم لتصبح وجبة يومية لكل عربى متذوق.
• • •
أصبحت قصائده خبز الثائرين والمتذوقين وصار هو حديث المجلس الشعرية والأدبية عندما طاردته الأجهزة الأمنية على خلفية الصراعات بين الشيوعيين والنظام الحاكم فى بغداد آنذاك. فهرب للأهواز وقضى فيها نحو العام وهناك أشارت لتلك الرحلة فى قصائده ومنها «بكائية على صدر الوطن» حيث قال:
قاومت الاستعمار فشردنى وطنى
غامت عيناى من التعذيب
رأيت النخلة.. ذات النخلة
والنهر المتشدق بالله على الأهواز
وأصبح شط العرب الآن قريبا منى
والله كذلك كان هنا
واحتشد الفلاحون على
• • •
رغم أن بدأياته كانت بالعامية وهى التى تحولت مع الوقت إلى أغنيات شعبية، إلا أن كثيرا من شعره المعروف عالميا هو المكتوب بالفصحى لصعوبة فهم العامية العراقية على كثير من العرب رغم أن عشاق شعر مظفر النواب يتمددون على أضلع الأوطان كلها. ما كان يجعله الأقرب للكثيرين هو تلك القدرة على الحديث عن الوجع والتشرد وفى قصائد أخرى كثير من الحب والغزل وتوصيفات مشابهة للتراث العربى مثل وصف الخمر وجسد المرأة وعينيها و...
• • •
يبقى مظفر خاصا جدا حتى بين شعراء زمنه ربما لتلك التركيبة النادرة من تعدد المواهب والقدرات والتجارب وربما أيضا لأنه لم ينسَ قضيته الأولى أبدا ولم يتهاون ولم يتراجع بل بقى أمينا على تلك القناعات والمبادئ حتى مارس كل المهن وعبر البحور والمحيطات والأنهار وسكن بلدات ومدن عدة.. هو الذى تفرد حتى فى طريقة هربه مع مجموعة من «رفاقه» من سجن الحلة المركزى عندما حفروا نفق بالملاعق والسكاكين الصغيرة بطول 25 مترا وعرض وارتفاع 75 سنتمترا. كان الهروب شبيها بتلك التى يراها المرء فى الأفلام فقط ولا يتصور أنها تحصل فى الواقع وإلا فكيف يستطيع ثلاثة وأربعون معتقلا الهرب ويمرون جميعا من أمام حارس المرأب المجاور للسجن ويقفزون فوق السياج ثم يختفون بين شجر البستان المجاور حتى أصيب الحارس بكثير من الذهول والاستغراب، وذهب ليخبر شرطى المرور القريب من المرأب والذى رأى هو الآخر ما تبقى من المعتقلين الخارجين من ذاك السجن شديد الحراسة وهم يركضون باتجاهات مختلفة نافضين التراب عنهم!
• • •
عاش مظفر كثيرا من الشتات وحالة من الهروب الدائمة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة خارج العراق التى عشق والتى وصف تفاصيل حياة ناسها عبر قصائده العامية منها على وجه الخصوص.. ربما رحل هو ولكن تبقى قصائده حية ترزق وكثير من الشباب يردد «الريل وحمد» أو «القدس عروس عروبتكم».