استخدام الأراضي المملوكة للحكومة كمحفز للاستثمار الخاص
داج ديتر
آخر تحديث:
الخميس 22 مايو 2025 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
تعتبر إعادة النظر فى كيفية إدارة الحكومات المحلية للأصول العامة واجبا أخلاقيا بقدر ما هو واجب اقتصادى ومالى. ويتطلب ذلك إدراك أن الحكومة المحلية فى الواقع أكبر مدير للثروات فى البلد.
وعلى مستوى الحكومات المحلية، تُعد العقارات أهم قطاعات الأصول بلا منازع، وتشمل الأصول المرتبطة بالنقل، مثل السكك الحديدية والمطارات والموانئ، بالإضافة إلى المناطق الصناعية السابقة الواقعة فى مراكز المدن أو بالقرب منها. والدليل واضح: الإدارة التجارية لهذه الأصول العامة يمكن أن تحقق مكاسب كبيرة.
تُعد شركة السكك الحديدية فى هونج كونج، إم تى آر المحدودة (MTR) واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك. فقد أُنشئت بهدف بناء وتشغيل نظام مترو أنفاق لتلبية الاحتياجات المتزايدة للنقل العام فى المدينة.
وقد استلهمت الشركة الحكومية فى هونج كونج الفكرة من أنظمة السكك الحديدية فى اليابان، من بين أماكن أخرى، حيث يتم تمويل تكلفة إنشاء البنية التحتية العامة من خلال تطوير المناطق المجاورة لمحطات القطار.
وقد دفع هذا الإلهام حكومة هونج كونج عبر شركتها القابضة إلى بناء نظام سكك حديدية يعادل حجم نظيره فى مدينة نيويورك، دون الاعتماد على الضرائب. وبدلا من ذلك، تم تمويل إنشاء السكك الحديدية من خلال نموذج «السكك الحديدية + العقارات».
فى الأصل، لم يكن المقصود من إيرادات تطوير العقارات تمويل التكلفة الرأسمالية للسكك الحديدية. بل كان المقصود أن تكون بمثابة احتياطى طوارئ وتعزيز التدفق النقدى لشركة السكك الحديدية. ومع ذلك، أصبح عائد تطوير العقارات مهما بشكل متزايد، حيث شكلت إيرادات العقارات 40%من إجمالى إيرادات شركة (MTR)كل عام منذ أواخر التسعينيات.
ومن الأمثلة الأخرى على فوائد الإدارة التجارية للعقارات فى القطاع العام السويد. فعندما تحركت السويد لتحرير سككها الحديدية فى التسعينيات، تم تقسيم احتكار السكك الحديدية الحكومى الحالى إلى أجزاء تشغيلية مختلفة، مثل قطاعى الشحن والركاب، لتحقيق المنافسة وجذب استثمارات القطاع الخاص. وبالتالى، تم فصل جميع العقارات المملوكة سابقا للشركة إلى شركة منفصلة - جيرنهوسن - مملوكة مباشرة للحكومة.
بمجرد فصل عمليات السكك الحديدية، وتشكيل مجلس إدارة وإدارة تنفيذية من مطورى عقارات محترفين، أصبحت الفرص التطويرية الهائلة واضحة فى الميزانية المستقلة التى تم وضعها حديثًا — وهى فرص كانت إما مخفية أو غير مستغلة فى السابق بسبب تركيز الإدارة على تشغيل السكك الحديدية.
تم تنفيذ مشاريع تطوير ضخمة حول وفوق محطات السكك الحديدية الرئيسية. فعلى سبيل المثال، أدت تغطية مسارات السكك الحديدية فى المناطق التجارية المركزية إلى خلق مساحات إضافية كبيرة للسكن والعقارات التجارية. كما تم تحويل ساحة سكك حديدية مهجورة فى وسط ستوكهولم إلى منطقة جديدة للابتكار والسكن.
بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الشركة فى تمويل استثمارات كبيرة فى البنية التحتية الوطنية، بما فى ذلك مضاعفة قدرة شبكة السكك الحديدية لتخفيف الاختناقات فى ستوكهولم. وقد خلقت هذه المشاريع فرصا هائلة للأعمال والاستثمار فى القطاع الخاص، وأسهمت فى تعزيز الاقتصاد.
من الأمثلة الإضافية على الإدارة الناجحة للعقارات العامة دراسة حالات تتعلق ببنية تحتية مهجورة للموانئ. فمع التطور الاقتصادى وانتشار حاويات الشحن الموحدة، هُجرت الموانئ المدمجة فى مراكز المدن - التى كانت فى السابق جزءا لا يتجزأ من اقتصادات العديد من المناطق الحضرية - لتتحول إلى مناطق قاحلة، مما ترك مناطق حضرية جذابة، مثل المنطقة المحيطة بمانهاتن وكانارى وارف فى لندن، جاهزة للتطوير.
كانت حكومتا هامبورج الألمانية وكوبنهاجن الدنماركية رائدتين فى إعادة تطوير هذه الأحياء الحضرية المهجورة دون استخدام أموال دافعى الضرائب، وذلك بإنشاء صناديق الثروة الحضرية (UEFs) المتخصصة.
أعادت هامبورج تطوير مينائها القديم، وهو حى كبير فى قلب المدينة بمساحة 2.4 كيلومتر مربع، تحت رعاية الشركة القابضة المحلية «هافن سيتى هامبورج المحدودة». وقد طوّرت سبعة آلاف وحدة سكنية ومكاتب لحوالى 35 ألف شخص، بجانب تمويل المدارس والجامعات ورياض الأطفال، بالإضافة إلى قاعة حفلات موسيقية بارزة.
تولت شركة باى آند هافن المملوكة لبلدية كوبنهاجن تطوير كل من الميناء القديم وحامية عسكرية فى وسط المدينة. بمساحة إجمالية تبلغ ضعف مساحة هامبورج، يُعد هذا المشروع أكبر مشروع تنمية حضرية فى أوروبا، حيث نتج عنه أكثر من 33 ألف وحدة سكنية جديدة، و100 ألف مساحة عمل، وجامعة جديدة تتسع لأكثر من 20 ألف طالب، بالإضافة إلى حدائق جديدة، ومرافق تجارية وثقافية. وبفضل الفائض المالى من عملياته، تمكّنت الشركة من المساهمة فى تمويل جزء من توسعة شبكة المترو المحلية واستثمارات البنية التحتية الأخرى التى تتطلبها المشاريع التنموية والمدينة. وتُعطى هذه المشاريع الضخمة دفعةً مُشجعةً للاقتصاد، وتُتيح فرصًا لمجموعة واسعة من المقاولين والمستثمرين من القطاع الخاص. بالإضافة إلى ذلك، تُعزز الزيادات الكبيرة فى مخزون الإسكان الحراك الاجتماعى، وهو المحرك الأمريكى الشهير للنمو الاقتصادى، وأحد العوامل الرئيسية لبناء مدن جذابة وصالحة للعيش.
من المتطلبات الأساسية لأى مشروع تطويرى من هذا النوع تكوين إدارة محترفة لقيادة مشروع التطوير التجارى. يجب أن تمتلك الإدارة مهارات أى شركة قابضة مماثلة فى القطاع الخاص. ويشمل ذلك تكوين فريق من المحاسبين والمطورين والمحللين القادرين على تحقيق عائد على الأصول العامة التجارية. وبالطبع، فإن الطريق الأسرع والأسهل هو بيع كامل محفظة العقارات لمطورى القطاع الخاص بدلا من إدارة المشروع تحت ملكية الحكومة. ولكن كما هو الحال فى أى اتفاقية تجارية، فإن الطرف الذى يتحمل المخاطر سيتحمل أيضا المكاسب المحتملة من المشروع. وبالتالى، عندما تبيع الحكومة أصولها بالكامل، سيؤدى ذلك حتما إلى نقل غير مستحق للثروة العامة إلى القطاع الخاص.
فى المقابل، كما تُظهر أمثلة هونج كونج وهامبورج وكوبنهاجن، فإن صناديق الثروة الحضرية - التى تسترشد بتفويضات المدينة، ويدعمها موظفون متخصصون متفانون، وتتمتع باستقلالية تامة عن النفوذ السياسى - قادرة على إدارة الأصول العقارية العامة بما يعود بالنفع على المجتمع ككل. ويمكن لهذه الصناديق، المُكلَفة بإدارة الأصول العقارية للقطاع العام، أن تتعاون مع القطاع الخاص فى مشاريع البناء الفردية، وتتقاسم المخاطر والعوائد على قدم المساواة، ومُواءمة مصالح جميع أصحاب المصلحة. ومن شأن هذا التعاون أن يقلل بشكل كبير من العوائق التى تحول دون تبسيط تنفيذ المهام المعقدة، مثل التخطيط الحضرى وتطوير البنية التحتية، إلى نُهُج تنظيم استخدام الأراضى، والتمويل، والتنفيذ، والتعاقد.
التحدى التقنى بسيط نسبيا: فقد أُديرت الأصول التجارية بنجاح يوميا فى القطاع الخاص لقرون.
أما التحدى الرئيسى فهو سياسى ويتمثل فى أن إدارة الأصول العامة بفعالية لصالح المجتمع تعتمد كليا على إرادة القيادة السياسية.
داج ديتر- خبير ومستشار استثمار دولى من السويد متخصص فى الأصول التجارية العامة ومؤلف مشارك لكتاب «الثروة العامة للأمم»
نقلا عن موقع Social Science Encyclopedia