أحكام القيمية في القضايا الدولية.. وجهة نظر
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الخميس 22 مايو 2025 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
رجاء حار، إن صح التعبير، إلى كل من يتطوع بالفُتْيا حول مستقبل النظام العالمى، السياسى والاقتصادى والعلمى - التكنولوجى، استنادًا إلى ما يجرى فى هذه الأيام الحاضرة، أن يتحرى الدقة قليلا أو كثيرا، وأن يتحلى بقدر معقول من الصبر (العلمى) الجميل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ليس معنى ما نتحدث عنه الآن أننا ندعو، بالضرورة، إلى استخدام تلك الأساليب (الكمية)، أو تلك، فى الاستشراف المستقبلى القريب نسبيًا، أو التنبؤ البعيد، بديلا عن التحليل المجتمعى المتكامل، متعدد الأبعاد والتخصصات.
إنما كل ما ندعو إليه، قدر معقول من (التأنى) وعدم التعجل فى إصدار الأحكام، بناءً على تعميمات غير مدققة صدقًا وحقًا، ولعلنا ندعو بديلا عما سبق إلى النظر (المتناظر) إلى الحاضر والمستقبل، عن طريق وضع تصورات بديلة وليس تصورًا واحدًا.
ليس معنى هذا – مرة أخرى – أننا ندعو، بالضرورة أيضا، إلى استخدام طريقة (السيناريوهات) على سبيل المثال، وإن كان يمكن الاستفادة منها، وتطعيمها بالفكر العلمى المتكامل وبالحدس intuition، كيما تكون فعالة كأداة للاقتراب من الواقع بدرجة عالية نسبيًا من الصدق.
لعنا ندعو إذن – باختصار – إلى التجديد الفكرى فى طرق «التوقع» على الآفاق الزمنية المختلفة.
نقول كل ذلك، ربما كمقدمة لفحص ما يدور حولنا هذه الآونة من آراء متباينة على ضوء السياسات الخارجية المتغيرة، لهذه الدولة الكبرى أو تلك، وخاصة السياسة الخارجية للرئيس الأمريكى الجديد (دونالد ترامب)، ونخص بالذكر فى السياق الراهن ثلاث قضايا:
(أ) القضية الفلسطينية، لا سيّما الإبادة الجماعية الإسرائيلية «لغزة» أرضًا وسكنًا.
(ب) قضية أوكرانيا وما يدور حولها من لغط بسبب الاصطفاف الأمريكى الراهن إلى جانب روسيا فى مواجهة أوكرانيا، مهما كان الوضع الحالى ومؤشراته الدالة على ما يمكن أن يجرى هنا أو هناك.
(ج) قضية «تايوان»، وإن ذكرنا «تايوان»، فقد ذكرنا «الصين»، فليس من المؤكد أن يكون المستقبل ظلا للحاضر الشاحب فى كل اتجاه.
• • •
وإن لكل من هذه القضايا الثلاثة، أبعادًا وشعبًا، تختلف مدلولاتها بقوة، فى كل ناحية عبر الزمن:
• مثال أول، إن كان يبدو الآن أن قيادة اليمين الصهيونى الرجعى الراهن فى إسرائيل، تتلقى دعمًا مطلقًا أو غير مطلق من أمريكا للقيام (بعملية الإبادة) أو استكمالها، فليس معنى ذلك أن يبقى (الحال على ما هو عليه)، وإنما لنا أن نتوقع تغييرًا كبيرًا وكثيرًا مهما يكن عليه «الوضع الراهن»..
• مثال ثان، إن كان يبدو أن الولايات المتحدة تصطف إلى جانب روسيا فى القضية الأوكرانية، فليس معنى ذلك أن الحال سيبقى على ما هو عليه، بعد سنوات، ولو ثلاث أو خمس سنوات، خاصة فى ضوء التغير الرئاسى المنتظر فى كل من روسيا وأمريكا، وتحولات السياسة الأوروبية كذلك فيما يبدو.
• مثال ثالث، أن قضية تايوان تبدو راكدة أو ساكنة الآن، ولكن ليس لنا أن نتوقع بالضرورة أن يبقى الحال كذلك، بعد تحولات ممكنة أو منتظرة فى كل من الصين وشرق آسيا وأمريكا وأوروبا وغيرها.
لذلك نقول: مهلا، فلا تتعجلوا الأحكام.
كان يمكن لنا أن نقدم شواهد متباينة حول ما يمكن أن يكون عليه الحال وفق «مشاهد» متصورة مختلفة – فى كل من فلسطين وشرق أوروبا والصين، ولكننا نرى من الأنسب أن نكتفى فى هذه النبذة بالإشارة إلى أهمية تحرى الحقيقة دون تعجل، وأن ما يمكن أن يحدث ليس «ممكنا» واحدًا، ولكنها «ممكنات» عديدة، وربما كثيرة.
والأيام دائما حُبلى بكل جديد..! و فيما يلى أمثلة متنوعة ذات طابع تطبيقى فى مجالات مختلفة، للتدليل على أهمية التبصر وعدم التعجل فى إطلاق الأحكام فى ميدان العلم الاجتماعى بمعناه الواسع.
أمثلة متنوعة بين الثوابت والمتغيرات
1- عامل أول، تتغير قيم الأشياء مقومة بالنقود من وقت لآخر، لا لشىء إلا لأن سنن التطور الاقتصادى تقتضى ذلك، ونشير هنا إلى «الدولار» كعملة حسابية تقاس بها قيم الأشياء، فإذا افترضنا قيمة معينة الآن، فإنها يمكن أن تتغير من وقت لآخر.
لذلك يجب ألا نتعجل فى استنباط أحكام تتعلق بالقيمة إلا إذا أخذنا فى الاعتبار تغير القيمة عبر الزمن من خلال تقنيات محددة مثل «الأرقام القياسية»، ولننظر أيضا إلى ما تقوم به السلطات النقدية المسئولة فى مختلف الدول، باعتبار ما يسمى بخفض قيمة العملة المحلية Devaluation مقومة بالدولار، أو ما يسمى بـــ «التعويم» كأداة لاحتساب قيم السلع والخدمات فى الاعتبار «القيمة الزمنية للنقود» كما ذكر «كينز» فى «نظريته العامة» الشهيرة، وفق ما دبّجها فى كتابه (النظرية العامة للتوظف والفائدة والنقود).
الخلاصة من الأمر، أنه ليس من المنطق الاقتصادى السليم التسرع فى إطلاق الأحكام المتعلقة بالقيمة الحسابية للسلع والخدمات، وإذا استبعدنا «حساب القيمة» بالمعنى الكمّى وذهبنا إلى «القيمة» value كمعيار أخلاقى ethical للحكم على الأمور، سواء من الزاوية «الأيديولوجية» أو غيرها، فإن ذلك أدعى إلى ضرورة التمهّل فى الحكم على مختلف الأمور، حتى يتميز (الغثّ من الثمين) وفق المعيار القيمى المختار.
2- عامل ثان، وجهة أخرى للحكم، يجب أخذها فى الاعتبار بداعى التمهّل وعدم التعجل، ذلك يتعلق بالتغير فى قاعدة الموارد الاقتصادية التى تمتلكها الدول سواء منها الموارد الطبيعية أم البشرية أو المالية.
وخذ مثالاً واضحًا على ذلك من «النفط والغاز الطبيعى» حيث يتهدد هذا وذاك عبر الزمن بحسابات الاحتياطى والعمر الإنتاجى وخشية النفاد، يترتب على ذلك، بداهة، اختلاف الحكم على بلد معين، من زاوية الثراء والفقر، طبيعيًا كان أو ماليًا أو بشريًا، وغير ذلك، مع الأخذ فى الاعتبار «عامل الزمن».
عدا عن التغير فى قاعدة الموارد الطبيعية، كالنفطية والغازية، فإن هناك التغير الناجم عن العامل «الديموغرافى» للسكان وقوة العمل، إذ تتغير أعداد السكان لأسباب مختلفة (سياسية، كانت أو اقتصادية أو حّيوية)، وانظر هنا إلى النقص البادى فى القاعدة الديموغرافية لكل من فرنسا وروسيا، مقابل الزيادة الملحوظة بدرجات مختلفة، سواء على مستوى معتدل كحالة الولايات المتحدة الأمريكية، أو على مستوى مُفرط كحالة الصين والهند، وفى الدول النامية تتوفر أمثلة أخرى كما فى حالات مصر ونيجيريا وإندونيسيا، حيث يتوجب النظر فى المتغير السكانى ومراقبته بدقة كأحد العوامل الأساسية فى النظر إلى معايير «قوة الدولة» عبر البعد الزمانى.
3-عامل ثالث، يدعو إلى ضرورة التمهّل فى إصدار الأحكام، وذلك يتعلق بالتطور التكنولوجى، الذى تتسارع وتيرته فى الحقبة الراهنة، وخاصة بفعل «الثورة الرقمية» و«الأتْمَتة» Automation وصولا إلى ما يسمى «الإنسان الآلى» أو «الروبوت»، وفى ضوء ذلك، ينبغى معاودة النظر بين كل حين وحين، حرصًا على أخذ العامل التكنولوجى المتغير فى الاعتبار.
• • •
تلك إذن بعض الاعتبارات المتغيرة، الواجب أخذها فى الحسبان لدى التصدى لإصدار الأحكام، فهل آن للباحثين والدارسين على اختلاف صنوفهم، أن يتوقفوا عند حقائق الأمور فى العمق، دون عجلة يغلب أن تؤثر على سلامة الحكم، وعلى مدى دقته؟
هذا ما نأمله، وندعو إليه، حفاظًا على «نفاذ البصيرة» و«بعد النظر»..