خواطر رجل مسن.. ملاحظات تمهيدية
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 22 يوليه 2025 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
إنها والله لنقلة كبرى. سنوات وأنا أكتب فى هذا الباب من صفحة الرأى بالشروق يوميات عن تطورات أو أحداث فى حيواتى الماضية، حياة الطفولة وحياة المراهقة وحياة الشباب وحياة تنقلت فيها بين الدبلوماسية والعودة للدراسة والصحافة والعمل السياسى العربى، عن هذه وتلك نقلت بعض ثمار تنقلى بينها وبين ثقافات لا اتفاق أو توافق بينها إلا ما ندر.
حاولت بنجاح قليل ولكن كاف أن أفصل بين ما هو شخصى جدًا، يعنى شئون أفراد عائلتى وبين ما هو ضرورى فى كتابة سير ذاتية لاطلاع أشخاص، أقصد قراء، لم أتبادل معهم العلاقة التى تسمح لهم بأن يتسللوا إلى داخل هذا الفانوس السحرى الذى يحتاج لينبس أو يكشف عن بعض أهم مكنونه إلى أكثر من حكة إصبع أو دفئ صدر حنون أو عذوبة كلمة من لسان فاهم.
• • •
أعترف بأننى لم أجد صعوبة كبيرة فى اختيار الحدث أو أبطاله أو نهايته. فالماضى لمن عاشه كنز يستحيل أن يفنى وبخاصة إذا توافرت شروط: ذاكرة تتجدد وفضول لا يهدأ وشهود بشهادات متنوعة. أظن أن الكتابة عن تجارب ماضى متعة لا تجاريها متعة أخرى. لا شك أن المؤرخين محظوظون باختيارهم مهنة الكتابة التاريخية ولكن المسئولية هائلة وخطيرة والتسلح بالضمير وحده لا يحمى. الإغراء قائم باستمرار، أن يعيد المؤرخ كتابة واقعة بعينها أو صفحة بكاملها.
• • •
عشت أسمع عن المسنين أن ذاكرتهم باعترافهم مشكوك فى سلامتها. وفى الحقيقة لم أقابل مسنًا، وأنا منهم، إلا واشتكى من ظاهرة النسيان. ينسى الفرد منا ما حدث له بالأمس، أو من دقائق، لكنه لا ينسى مشاهد كثيرة عن طفولته وسنوات دراسته الابتدائية. أنا نفسى ما زلت أتذكر وبالوضوح، غير الممكن، أوقات قضيتها داخل مشربية بابها على الداخل مغلق ومن خلفى «الستات» مجتمعات حول صينية القهوة وعلى سطحها السبرتاية وعلبة البن والملعقة والفناجين، مطمئنات إلى أن الأطفال رضعًا كانوا أو أكبر قليلًا محشورون فى أمان داخل المشربية، هم أيضًا وأعنى الأطفال، مطمئنون فالأمهات أجسامًا أو أصوات على بعد صرخة جوع أو لسد حاجة من طفل أو أكثر داخل مشربيات صالة أو غرفة "المسافرين" يتسلى من موقعه بالمارة والباعة المتجولين فى الطريق من ناحية وبنساء العائلة من الناحية الأخرى.
• • •
ما زال الجدل دائرًا إن كان ما رويته بتكرار وإصرار عن مشربيتى فى بيت العائلة المطل على الجامع فى شارع أمير الجيوش الجوانى سردًا صريحًا وصادقًا لجانب من ذاكرة طفل. أنا نفسى عشت مراهقتى وفترة من شبابى أشك فى هذه الذاكرة فتجرنى قدماى إلى البيت العتيق، حتى بعد أن صار مدرسة لأتأكد من وجود المشربيات واتساع سعتها لطفل غير قليل الحجم. أما وقد كبرت وبقيت الرواية وغيرها من الروايات عن الطفولة فى مخيلتى لا تغادر وتتحدى منطقا بعد آخر صرت أقبل بكثير من التردد المنطق القائل إن المشربية واقع حقيقى وكذلك استعمالها لتأمين حياتنا كأطفال ولراحة الأمهات والخالات واقع أيضا، أما ذاكرة طفل ثم مراهق وشاب ورجل ومسن تحتفظ به لعقود فلذلك تفسير وهو أن هذه الجماعة كانت تكرر أمامى هذه الرواية حتى صارت محفورة فى مخيلتى. لا مانع.
• • •
لم يعد هذا الأمر يهمنى بنفس الدرجة بعد أن صرت فى غمار محاولة فهم ما يدور حقيقة فى رأس رجل مسن أو سيدة مسنة. احترت فى التعريف بصفة المسن. لا الكهل مرغوبة ولا العجوز محببة ولا الشيخ مناسبة. عندما يكون موضوعنا كبار السن فنحن فى واقع الأمر ولمراعاة الدقة أمام فئة من البشر لم يوجد مثلها من قبل. أعنى ما أقول. قالت شقيقتى ونحن نناقش وضع مسنى هذه الأيام بالمقارنة بوضعهم قبل أربعين عامًا «كانت إذا اجتمعت خالاتى فى مناسبة اعتبرناهن من جيل المسنات علمًا بأن أكبرهن سنا لم تزد فى ذلك الحين عن الخمسين ولم تعش حتى الستين وواحدة منهن عاشت دون الأخريات حتى السبعين».
• • •
كان فى حينا مقهى تحت عنوان "قهوة المالية". يرتاده بانتظام متقاعدو وزارات المالية والتعليم والصحة وغيرهم من أصحاب المعاشات. هم فى العرف العام مسنون. كل منهم كان صاحب مرض خائلى أو حقيقى. أغلبهم يحملون عصا يتكئون عليها أثناء المشى أو لزوم الهيبة. أنا شخصيًا أذكرهم وقد خلعوا طرابيشهم ووضعوها على أقرب كراسى غير مشغولة وراحوا يلوحون بمنشاتهم لطرد الذباب والناموس إن وجد. كان سن الستين فى نظر الحكومة ومؤسساتها خط النهاية لمشوار المواطن المصرى منذ ولادته وحتى وفاته. كثيرا ما سمعت عبارة «حسن الختام» تتردد على ألسنة ضيوف أبى ولم أفهم وقتها دلالاتها.
• • •
أما وقد تحدثت عن ضيوف أبى أجد من المفيد وأنا أحكى عن كبار السن فى تلك الأيام أن أفرد له سطورًا ولو كانت قليلة. تزوج وهو دون العشرين من ابنة الجيران، وهى دون الرابعة عشرة وأنجبا أنثى ثم ذكرًا . تأخر وصولى لاثنى عشر عامًا لأسباب صحية غير معلومة فى تلك الأيام. ولد هذا التأخير تعلقًا بالغًا بالمولود رضيعًا ثم طفلًا فمراهقًا فشابًا فرجلًا متزوجًا وأبًا لطفلين ثم ثلاثة. أثمر التعلق حرصًا على تلبية أى رغبة لهذا الابن متخيلة كانت هذه الرغبة أم معلنة. أثمرت أيضًا تناقضات فى العلاقة ظلت غير معلنة أو محاطة بقصص محبوكة عاشت أمى ترويها دفاعًا عنه وعن العلاقة.
هذه العلاقة أثمرت من بعده فى شخصى مسنًا آخر تطبع ببعض طباعه ولكن بإيقاع وإيحاءات زمن آخر غير إيقاع وإيحاءات زمانه الأول.