بناء سردية محلية لانتقال عادل للطاقة.. حال الطاقة اليوم فى مدينة القصير
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الأحد 22 سبتمبر 2024 - 6:20 م
بتوقيت القاهرة
التعامل مع منظومة الطاقة باعتبارها منظومة وظيفية مفتوحة يترتب عليه فهمها كجزء من منظومة أكبر أو أوسع تتفاعل وتتكيف مع المنظومات المرتبطة بها فى البيئة الطبيعية، فمثلا منظومة البيئة الطبيعية للأرض تشمل بداخلها العديد من المنظومات الفرعية ومنها مثلا منظومة المياه ومنظومة الطعام ومنظومة الطاقة ومنظومة التنقل، وتلك المنظومات يتأثر بعضها ببعض بصورة كبيرة. ويتطلب المدخل المنظومى لدراسة منظومة الطاقة وضعها فى إطارها الزمنى أولا لفهم ظروف ونشأة وتحولات تلك المنظومة حتى وصلت لما وصلت إليه حاليا. كما أن أى منطقة نقوم بدراستها لا يمكن فهمها بمعزل عن إقليمها الطبيعى، كما أن تلك المناطق تتأثر بالمتغيرات التى تحدث فى بقاع قد تكون بعيدة تماما.
• • •
نحن مهتمون بدراسة منظومة الطاقة فى مدينة القصير لأن فى فهمها وإمكانية الوصول إلى مقترحات لمعالجة الإشكاليات بها مردود ليس على المدينة نفسها فقط ولكن أيضا ستكون مفيدة للعديد من المدن الأخرى التى تواجه إشكاليات مشابهة.
وبالرغم من أننا لا نعرف الكثير عن التاريخ المفصل لمدينة القصير ولكن ما تركه لنا بعض البحارة البرتغاليين عن مشاهداتهم لمدينة القصير القديم كما نقلها عنهم باحثو معهد الأبحاث الأمريكى بمصر فى كتابهم القيم عن مدينة القصير يزودنا ببعض المعرفة عن الفترة الأخيرة فى حياة المدينة فى موقعها القديم (المواجه لفندق موفينبك وفلامنكو). قام البرتغاليون بتدمير ما تبقى من مدينة القصير القديم مما دفع بانتقال السكان المتبقين آنذاك للمكان الحالى للمدينة حول وادى العمبجى. وقام العثمانيون بعد ذلك لتأمين سيطرتهم على البحر الأحمر بإنشاء قلعة للدفاع عن الميناء والمدينة فى الموقع الجديد للمدينة. وبعد وصول الحملة الفرنسية للقصير فى مطلع القرن الثامن عشر وترميمهم القلعة ثم انسحابهم منها بعد فترة قصيرة، شهدت المدينة اهتماما من قبل الوالى محمد على وابنه ابراهيم لخدمة حروبهم فى الجزيرة العربية.
ثم كان اكتشاف البترول فى البحر الأحمر فى النصف الثانى للقرن التاسع عشر إيذانا بتحول مصر عن استخدام طاقة الكتلة الحيوية (الخشب والفحم والمكونات العضوية الأخرى) إلى استخدام الطاقة الناتجة عن الوقود الأحفورى. ومع بداية إنتاج البترول بصورة تجارية أوائل القرن العشرين كانت أيضا البداية الموازية للصناعات التى تستخدم أدواتا تطلب استهلاكا كبيرا للطاقة كما كان الحال مع شركة فوسفات القصير والتى تأسست فى ١٩١٢ وكان إنشاء مصنعها فى المدينة بمثابة تحول كبير فى تاريخ المدينة، حيث أمدت تلك الطاقة المكتشفة حديثا أنشطتها المختلفة سواء الخاصة بالتصنيع أو تلك الخاصة بجعل حياة آلاف العاملين وأسرهم ممكنة.
قبل إنشاء الشركة لم يكن يعيش فى مدينة القصير إلا عدد محدود كما يبين أول تعداد للسكان فى عام ١٨٤٧ والذى بلغ أقل من ألفى نسمة. تطلب إنشاء الشركة وتشغيل المناجم الخاصة بها الآلاف من العاملين ليقيموا بالقرب من المناجم أو بالقرب من المصنع الرئيسى فى القصير. تم استقدام معظم هؤلاء العاملين من أقرب مكان للقصير عبر الطريق التاريخى الذى يربطها بوادى النيل وخاصة من قرية الكلاحين على حافة الوادى وبالقرب من قفط. وأصبح توفير الحد الأدنى لمعيشة هؤلاء ممكنا بفضل وجود كميات يمكن الاعتماد عليها من البترول ومشتقاته.
• • •
كان تأثير شركة الفوسفات كبيرا على العديد من جوانب الحياة فى المدينة. بدأت الشركة بإنشاء مصنع لتحلية مياه البحر محليا باستخدام الوقود لتسخين مياه البحر وغليها للتخلص من الأملاح لتكون صالحة للاستخدام البشرى. كما كان للشركة محطة لتوليد الطاقة الكهربية تمد بها ليس مبانيها الصناعية فقط ولكن أيضا مساكن العاملين بها والقريبة من المصنع ولوقت قريب كان بالعديد من تلك المساكن عدادان للكهرباء واحد تابع للشركة والآخر للحكومة المصرية. طوال تاريخ عمل الشركة وبرغم تضاعف عدد سكان المدينة إلى أكثر من عشرة أضعاف سكانها فى النصف الأول للقرن التاسع عشر، كانت الشركة قادرة على دعم توفير الحد الأدنى من الطاقة اللازمة للتصنيع ودعم حياة ممكنة للعاملين فيها والذين شكلوا غالبية سكان المدينة سواء أتوا من الوادى أو كانوا من السكان الأصليين للمدينة.
لكن ومع نهاية عمل الشركة فى مدينة القصير فى نهاية التسعينات ــ كنتيجة مباشرة لتطبيق قانون البيئة الذى صدر فى العام ١٩٩٤ وأيضا للضغوط باتجاه التحول للسياحة على حساب تصنيع وتصدير الفوسفات ــ ازداد الطلب على الطاقة فى المدينة لتلبية طلب المستخدمين المؤقتين الجدد. ويقدر استهلاك الكهرباء فى القصير بـ١٢٢٧ ك/س لكل إنسان وهو ما يمثل حوالى ٦٠٪ من متوسط استهلاك المواطنة/المواطن المصرى طبقا لوزارة الكهرباء والطاقة فى ٢٠٢٣. ومن ناحية أخرى، قدّر طلابى وطالباتى استهلاك السائح أو السائحة للطاقة فى منتجعات المدينة بحوالى خمسة عشر ضعف ما يستهلكه ساكن المدينة.
خلال توزيع ونقل الطاقة الكهربية يتم فقد ما متوسطه ١١٪ على مستوى الجمهورية ولكن نسبة الفاقد هذه ترتفع فى مدينة القصير لتصل لحوالى ٣١٪ وهذا يمكن إرجاعه لبعد المسافة بين أماكن الإنتاج وأماكن الاستهلاك فى القصير (كان يوجد فى القصير محطة ذات قدرة صغيرة هى الآن بمثابة مولد احتياطى) ولكن بعد وصل مدينة القصير بالشبكة القومية للكهرباء فى نهاية صيف ٢٠١٩ لم تعد الآن المصدر الرئيسى للطاقة فى المدينة.
• • •
تعتمد المدينة فى استهلاك المياه المخصصة للاستخدام المنزلى على المياه المنتجة من محطة تحلية المياه فى المدينة والتى تنتج ما يقدر بـ٢٣٨٢ م٣ يوميا (فى ٢٠١٩ طبقا لمحافظة البحر الأحمر) وتعتمد التقنية المستخدمة للتحلية وهى الإسموزية العكسية على الاستهلاك الكثيف للطاقة. هناك محطات أخرى بقدرات صغيرة فى بعض القرى السياحية لتلبية احتياجات النزلاء (محطة بقدرة ٣٠٠ م٣ يوميا لاستهلاك موفينبيك وفلامينكو مثلا).
ومن أشكال استهلاك الطاقة الكبرى فى المدينة تلك المستخدمة فى التنقل سواء فى العربات لنقل الركاب أو البضائع على الطرق أو الطيران حيث يصل أغلب السياح لمدينة القصير بواسطة الطيران من خلال مطار الغردقة أو مطار مرسى علم، واستهلاك وقود الطيران ينتج عنه نسبة كبيرة من الانبعاثات مقارنة بوسائل المواصلات الأخرى.
زاد وجود السياحة كنشاط رئيسى فى مدينة القصير من إشكالية الطاقة فى المدينة وأظهر مدى افتقار سكان المدينة لما يستحقونه من قدر عادل من الطاقة يمكنهم من الحياة بصورة مقبولة، وهذا الوضع غير العادل لتوزيع مورد رئيسى مثل الطاقة فى المدينة من المتوقع أن يتدهور أكثر كنتيجة للتغير المناخى والضغط الأكبر المتوقع على الموارد المحدودة المتوافرة.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة