من الاقتصاد الريعي إلى التصنيع..موقع مصر في زمن العولمة العكسية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 22 سبتمبر 2025 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن العالم فى العقود الماضية أكثر تمسكًا بشعارات التجارة الحرة كما كان بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية منتصف التسعينيات، حين سادت قناعة بأن العولمة ستفتح الأسواق وتزيل الحواجز وتتيح للسلع ورءوس الأموال التنقل بحرية غير مسبوقة.
لكن هذه القناعة ما لبثت أن اهتزت بعنف مع اندلاع الأزمة المالية العالمية عامى 2007 و2008، ثم ازدادت هشاشتها مع تداعيات جائحة كورونا والحرب فى أوكرانيا، وصولًا إلى ذروة التوتر بين الصين والولايات المتحدة. عند هذه النقطة برزت الحمائية مجددًا فى صدارة المشهد، ليس فى الدول النامية وحدها، بل فى الاقتصادات الكبرى التى كانت حتى وقت قريب تتبنى خطاب تحرير التجارة وتدافع عنه بشراسة. ومن هنا يطرح الواقع أسئلته الملحّة: إلى أى مدى ما زالت دول العالم ملتزمة حقاً باتفاقيات التجارة فى ظل موجة الانكفاء الجديدة؟ وأين يمكن أن تتموضع مصر داخل هذا السياق الدولى المتحوّل، وهى تسعى جاهدة للتحرر من أسر الاقتصاد الريعى والانطلاق نحو اقتصاد إنتاجى قوامه الصناعة؟
الواقع الجديد يكشف أن الالتزام باتفاقيات تحرير التجارة لم يعد مطلقًا، فقد دشّنت الإدارة الأولى للرئيس دونالد ترامب (2017–2021) موجة صريحة من النزعة الحمائية، عبر فرض رسوم جمركية انتقائية على واردات من الصين وأوروبا بحجة حماية الأمن القومى وتصحيح اختلالات الميزان التجارى. تلك الخطوة شكّلت صدمة للنظام التجارى متعدد الأطراف، وخرقًا واضحًا لروح منظمة التجارة العالمية التى تحظر التمييز بين الشركاء، لكنها حظيت بقبول سياسى واسع فى الداخل الأمريكى. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض لفترة ثانية، تعززت تلك النزعة لتأخذ طابعًا مؤسسيًا أكثر عمقًا، إذ لم تعد مجرد إجراءات مؤقتة، بل أصبحت جزءًا من عقيدة اقتصادية كاملة تقوم على إعادة سلاسل التوريد إلى الداخل الأمريكى، وإخضاع قواعد التجارة لاعتبارات الأمن القومى واستراتيجيات التوطين الصناعى.
لم يكن الاتحاد الأوروبى بعيدًا عن ذلك المسار، ففرض بدوره إجراءات حمائية على الصلب والألومنيوم، وأطلق برامج دعم ضخمة للانتقال الأخضر، تُرجمت فى الواقع إلى إعانات غير مباشرة للصناعات الأوروبية على حساب المنافسين. أما الصين، التى لطالما استفادت من انفتاح الأسواق الغربية، فقد لجأت إلى استخدام أدوات مضادة: دعم سخى لقطاعات التكنولوجيا الفائقة، وفرض قيود على تصدير المعادن النادرة اللازمة لإنتاج البطاريات وأشباه الموصلات، فى رسالة مفادها أن أسلحة التجارة يمكن أن تتحول إلى أدوات ضغط جيواستراتيجية.
هذه التطورات تؤكد أن الالتزام الحرفى بقواعد التجارة الدولية أصبح استثناءً لا قاعدة، وأن اعتبارات الأمن القومى وتعزيز الصناعة الوطنية باتت تتقدم على نصوص القانون التجارى الدولى، الأمر الذى يعكس تحوّلاً جوهريًا فى فلسفة الاقتصاد العالمى المعاصر.
• • •
لم يقف كبار الاقتصاديين الكبار صامتين أمام تلك التحولات، حيث يرى الاقتصادى التركى «دانى رودريك» أن العولمة فى صورتها المطلقة لم تعد خيارًا قابلًا للاستمرار، وأن على الدول أن تجد صيغة للتوازن بين الانفتاح والسيادة الاقتصادية، تسمح لها بفرض سياسات صناعية تحمى فرص العمل وتعزز القدرة التنافسية. أما الاقتصادى الأمريكى «جوزيف ستيجلتز» فيشير إلى أن النظام التجارى غير العادل ساهم فى مفاقمة التفاوت بين الشمال والجنوب، وأن إصلاحه يتطلب منح الدول النامية مساحة أوسع لتطبيق برامج التصنيع دون أن تُعاقب بدعوى خرق الاتفاقيات. من جانبه حذّر الاقتصادى «بول كروجمان» من إمكانية تحوّل الحمائية إلى أداة سياسية شعبوية! تحقق مكاسب انتخابية سريعة لكنها تضر بالقدرة الإنتاجية على المدى الطويل، مذكرًا بأن التنافسية الحقيقية لا تُبنى بالجدران الجمركية بل بالاستثمار فى التكنولوجيا والتعليم والبنية الأساسية.
كل تلك التطورات تدفع إلى تساؤل أساسى حول مدى ملاءمة اتفاقيات التجارة الدولية للاستمرار بصيغتها الراهنة. فهذه الاتفاقيات صيغت فى تسعينيات القرن الماضى، فى مناخٍ اتسم بالتفاؤل بالعولمة، حين لم تكن الرقمنة قد تجاوزت خطواتها الأولى، ولم يكن التغير المناخى أو الأمن التكنولوجى على جدول الأولويات. لكن العالم منذ ذلك الحين تعرض لصدمات متلاحقة غيّرت قواعد اللعبة: جائحة كوفيد-19 كشفت هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، والمد الشعبوى فى الغرب أطلق موجة من السياسات الانعزالية والحمائية، فضلًا عن تصاعد النزاعات الجيوسياسية التى أعادت الاقتصاد إلى مربع الأمن القومى. فى هذا السياق تبدو نصوص الاتفاقيات القديمة عاجزة عن مواكبة الواقع، ولن يكون الالتزام بها ممكنًا إلا إذا أُعيد تحديثها فى سياق إدراك قضايا التجارة الرقمية والمناخ، ومنح الدول مساحة أوسع للدفاع عن صناعاتها الإستراتيجية، دون أن تفرّغ مبادئ النظام التجارى العالمى من مضمونها.
فى هذا السياق العالمى، تبدو مصر أمام منعطف حاسم. فاقتصادها ظل لعقود طويلة ميالًا إلى الريعية، سواء من خلال الاعتماد على تحويلات العاملين بالخارج أو عائدات قناة السويس أو إيرادات السياحة، بينما بقيت الصناعة عاجزة عن لعب دور القاطرة. وإذا أرادت مصر أن تتحول حقًا إلى اقتصاد إنتاجى، فلا مفر من إعادة صياغة استراتيجيتها التجارية والصناعية بما يسمح لها بالاستفادة من هوامش المناورة التى يتيحها النظام الدولى فى لحظة الاضطراب الراهنة.
• • •
فى ظل هذا الواقع العالمى الذى يغص بالتحولات، تقف مصر عند منعطف تاريخى حاسم؛ فقد ظل اقتصادها لعقود حبيس المصادر الريعية التقليدية: من تحويلات العاملين بالخارج إلى إيرادات قناة السويس وعوائد السياحة، وهى مصادر وفيرة لكنها غير مضمونة الاستدامة، ولا تكفى وحدها لبناء قاعدة صلبة للنمو طويل الأمد. وفى المقابل، بقيت الصناعة المصرية عاجزة عن الاضطلاع بدور القاطرة التى تجر بقية القطاعات، رغم ما تمتلكه البلاد من سوق واسعة وموارد بشرية هائلة وموقع جغرافى يؤهلها لتكون مركزًا للإنتاج والتصدير.
لذا فإن التحول إلى اقتصاد إنتاجى لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية، تستلزم إعادة صياغة شاملة للاستراتيجية التجارية والصناعية. فمصر اليوم بحاجة إلى سياسات تتيح لها اغتنام هوامش المناورة التى يفتحها النظام الدولى فى لحظة الاضطراب الراهنة، حيث تتراجع مسلمات العولمة وتفسح المجال أمام الدول التى تمتلك رؤية واضحة لتأمين مصالحها. إن الاستثمار فى الصناعات التحويلية، وتعميق الروابط مع سلاسل القيمة العالمية والإقليمية، وتوظيف الاتفاقيات التجارية لتصدير منتجات ذات قيمة مضافة، تمثل جميعها ركائز لا غنى عنها إذا أرادت مصر التحرر من أسر الاقتصاد الريعى، وتأسيس لمرحلة جديدة من التنمية المستدامة.
المطلوب أن توازن مصر بين التزاماتها الدولية وحاجتها إلى بناء قاعدة صناعية متينة. وهذا التوازن لا يتحقق إلا من خلال سياسات حماية ذكية ومؤقتة للقطاعات الناشئة، ترافقها برامج جادة لرفع الإنتاجية وتخفيض التكلفة وتحسين الجودة. أى أن الحماية يجب أن تكون وسيلة عبور لا غاية نهائية. تجربة كوريا الجنوبية تقدم نموذجًا بليغًا: فقد منحت حكومتها الشركات الناشئة حماية مرحلية لكنها ربطت استمرارها بقدرتها على التصدير والمنافسة فى الخارج، ما خلق حافزًا للتطوير المستمر. أما الهند فقد أطلقت برنامج دعم التصنيع القائم على الإنتاج Production-Linked Incentives PLI، والذى يقوم على منح حوافز مباشرة للشركات التى تحقق زيادات ملموسة فى إنتاجها المحلى، خصوصًا فى القطاعات الاستراتيجية مثل الإلكترونيات والهواتف المحمولة والبطاريات. وقد أسهم هذا البرنامج فى جذب استثمارات أجنبية ضخمة وتحويل الهند تدريجيًا إلى مركز صناعى بديل فى مواجهة تزايد المخاطر الجيوسياسية المحيطة بمنافستها التقليدية (الصين). أما البرازيل فاتبعت حماية ممتدة وغير مشروطة فانتهى الأمر إلى صناعة محلية مثقلة بالتكاليف وعاجزة عن التصدير. هذه الدروس يجب أن تكون حاضرة فى الذهن المصرى.
• • •
وعلى المستوى العملى، تستطيع مصر أن تتبنى حزمة سياسات متكاملة: أولها التفاوض على استثناءات مشروعة داخل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية تسمح بدعم الصناعات الوطنية فى حدود زمنية واضحة، وثانيها توسيع المشاركة فى سلاسل القيمة الإقليمية عبر اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية بما يمنحها سوقًا واسعة لتصريف المنتجات، وثالثها الاستثمار فى القدرات المؤسسية لضبط الجودة والمعايير بما يسهل النفاذ إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية. يضاف إلى ذلك ضرورة ربط التعليم الفنى والجامعى باحتياجات الصناعة، حتى لا تظل الفجوة بين الخريجين ومتطلبات سوق العمل عائقًا أمام التطوير.
لكن التحوّل لن يكون بلا مخاطر، فثمة خطر أن تتحول الحماية إلى ذريعة للعودة إلى الريعية عبر شبكات مصالح تبحث عن دعم حكومى دون مقابل إنتاجى. وثمة خطر آخر يتمثل فى انزلاق الدولة إلى دوامة دعم عشوائى يستهلك الموارد المالية دون تحقيق أية قيمة مضافة. لذلك يجب أن تكون كل آلية دعم أو حماية مرتبطة بمؤشرات أداء محددة، مثل نسب التصدير أو معدلات زيادة الإنتاجية أو مستويات التشغيل.
فى المحصلة، لا يمكن القول إن اتفاقيات التجارة فقدت جدواها تمامًا، لكنها لم تعد كافية بذاتها لمواكبة التحولات الجارية. فالعالم يشهد إعادة تشكيل للنظام التجارى، تتراجع فيه مسلّمات العولمة لتحل محلها اعتبارات الأمن القومى والسيادة الاقتصادية. وفى قلب هذه اللحظة المضطربة، تملك مصر فرصة نادرة للخروج من أسر اقتصادٍ قائم على ريع الجغرافيا والموارد، إلى رحابة اقتصاد إنتاجى يرتكز على الصناعة والابتكار.