الثقة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 22 سبتمبر 2025 - 7:18 م
بتوقيت القاهرة
تجمع جمهرة علماء الاجتماع على أن الثقة هى عماد التمدن، أساس التحضر، ودعامة المجتمع الناهض. كما تشكل التربة الخصبة التى يترعرع فى ربوعها الترابط الاجتماعى الخلّاق. فى حين يُنذر أى اضطراب يعتريها بتهاوى الوشائج المجتمعية، وسيادة الحذر، وهيمنة الخوف؛ بما يقوض استدامة التجربة الإنسانية الحضارية.
ينشغل الاقتصاديون بما للثقة من تأثير مباشر على المردودية والإنتاجية، كونها تعزز الترابط والتنسيق بين الفاعلين الاقتصاديين على مستويين مهمين، هما: حركية المعلومات، ونشر الابتكارات. ومن ثم، فإن الفعالية الاقتصادية للثقة تستند إلى ركيزتين: أولاهما علمية، وثانيتهما معرفية. فمن خلال انتقال المهارات تنتعش التنافسية، وتتوافر المعرفة الإبداعية بتفاصيل وأبعاد البيئة الاقتصادية. فى المقابل، يتسبب غياب الثقة فى إعاقة التنمية، وإجهاض فرص التنسيق الخلّاق بين الموارد البشرية.
بحلول القرن الثامن عشر، ارتبطت الثقة بتحقيق المنفعة الفردية التى تمهّد، بدورها، لبلوغ المنفعة العامة. وكان الفيلسوف والاقتصادى الاسكتلندى الشهير، آدم سميث، فى طليعة المُنظّرين لها خلال النصف الثانى من ذلك القرن، فى سفره المعنون: «نظرية المشاعر الأخلاقية». ففيه اعتبر أن المجتمع الإنسانى، بما فيه من علم، لغة، فنون، وتجارة، متأصل فى الطبيعة البشرية. وبيّن كيف أن غرائزنا الطبيعية تقدم دليلا أكثر وضوحا. فإذا أقدمنا على إزالة «منظومات التفضيل أو التقييد» كافة، والاستناد إلى «الحرية الطبيعية»؛ سنجد أنفسنا مستقرين، عن غير عمد وبكل ثقة، فى ظل نظام اجتماعى متناغم، سلمى وفاعل.
وفى مقدمة مؤلفه المعنون: «الثقة والمصداقية»، عبّر عالم السياسة الأمريكى، راسل هاردين، عن علاقة الثقة بالمصلحة، مشيرًا إلى أن فاعلًا ما يثق فى آخر لأنه مقتنع بأن ذلك الأخير سيأخذ فى الحسبان مصالحه التى سيعود تحقيقها بالنفع على كلا الطرفين. وفى مسطوره الماتع المعنون: «الثقة.. الفضائل الاجتماعية ودورها فى تحقيق الرخاء الاقتصادى»، الصادر عام 1995، اعتبر المفكر الأمريكى ــــ اليابانى، فرانسيس فوكوياما، أن إتمام أى تحول ديمقراطى، أو إنجاح أى برنامج تنموى، لا يتأتيان إلا من خلال تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع. فضلًا عن زيادة منسوبها بين عناصر ومكونات الجبهة الداخلية، وتخطيها المجال المحدد للجماعات، فيما يسميه «البعد الإيجابى للثقة».
بدراسته قضية الثقة داخل مجتمع الحداثة، اهتدى عالم الاجتماع السياسى البريطانى، أنطونى جيدنز، إلى أن التصدى للأزمات المجتمعية الأخلاقية يستوجب بناء الثقة. وقد أصّل مقاربة فكرية حول «أزمة الأخلاقيات ومنطلقات بناء الثقة فى المجتمعات المعاصرة»، ترتكز، فى جوهرها، على رؤيته للبنية الاجتماعية الداعمة لتشكل الأخلاقيات وبناء الثقة. وانطلق من أدوار فواعل اجتماعية فى تشكيلها، مثل: الحكومات، وسائل الإعلام، منظمات المجتمع المدنى العالمى، الخبراء.
ويعتقد جيدنز أن مجتمع الحداثة، الذى أوجد فجوة بين الأشخاص، تتمثل فى اختفاء ظاهرة الثقة المبنية على اللقاء وجهًا لوجه، عن طريق الأموال وعوامل التباعد الأخرى؛ عمل جاهدًا لبناء وسائط الثقة عن بُعد من خلال البنوك وغيرها. مبتغيًا التأكيد على أن التباعد لا يعنى انعدام الثقة فى المجتمع، وفرض معايير صارمة للتأكد منها. ويرى أن معضلة مجتمعاتنا المعاصرة، التى يصعب تصنيفها ما بين حديثة، تقليدية، أو ما بينهما؛ إنما تكمن فى غياب المؤسسات الوسيطة لصناعة الثقة. وهو ما جعل المجال العام ضيقًا حرجًا، جراء تسيد الثقة المحلية، والتشكيك فى الآخر والبعيد، وتفشى القيم العائلية اللاأخلاقية، وتفضيل الخاص على العام. وعليه، يذهب جيدنز إلى أن غياب المؤسسات الوسيطة لبناء الثقة فى مجتمعاتنا يؤدى إلى شيوع العنف الفوضوى أداةً لإدارة الاختلاف المحلى، أو القمع على المستوى الوطني. ومن هنا، يغدو الاستثمار فى بناء تلك المؤسسات وتمكينها مفتاح الحل للعديد من صراعاتنا المزمنة وأزماتنا المستحدثة.
فى رؤية تأملية بلورها عام 2022، اعتبر المبرمج الأمريكى، بيل غيتس، تآكل الثقة بين الشعوب والحكومات أحد أبرز بواعث تهديد الدولة الوطنية الحديثة. كما أعرب عن قلقه من أن يُفضى غياب المعالجة السريعة لتلك المعضلة البنيوية إلى دفع قطاع من الناخبين الأمريكيين إلى اختيار قيادات، نواب برلمانيين، وحكام ولايات؛ يتسبب فشلهم أو سوء إدارتهم للأمور فى تعزيز فجوة الثقة. فلطالما أوجدت تراكمات تاريخية من هذا القبيل حالة من انعدام الثقة بين الدولة والمجتمعات المحلية. ومن ثم، ينصح غيتس بضرورة معالجة ذلك الخلل عن طريق الاستثمار فى المؤسسات الوسيطة، التى بمقدورها تجسير الفجوة المتعاظمة بين الضفتين.
مؤخرًا، أكد تقرير نشره «المنتدى الاقتصادى العالمى» أن الثقة لم تعد رفاهية، بل ضرورة تجارية. حيث يغير الذكاء الاصطناعى بيئة العمل، ويقدم فرصًا غير مسبوقة للنمو والتقدم. لكن ذلك يحدث فقط للمؤسسات التى تستطيع مواجهة تحدياته، لاسيما المتعلقة بقضية الثقة. تلك التى بدونها سيتعثر وعد الذكاء الاصطناعى، وستتخلف الشركات عن ركب «العصر الذكى». ذلك أن فجوة الثقة تهدد بإجهاض الإمكانات وفرص النجاح، خصوصًا التى يحملها الذكاء الاصطناعى لتحويل الأعمال.
واعتبر التقرير أن التهافت على اعتماد الذكاء الاصطناعى التوليدى، أدى إلى تراجع الثقة بالقيادات المؤسسية. بيد أن التبنى الناجح له، عبر ملء فجوة الثقة، وإيجاد بيئة يتسنى للموظفين خلالها التعبير عن مخاوفهم، ومواجهة المخاطر، والابتكار دون خوف من بطش رؤسائهم؛ يمكن أن يحقق نموًا اقتصاديًا يناهز 10.3 تريليون دولار.
توصلت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد الأمريكية، حول تصورات الموظفين عن الذكاء الاصطناعى، إلى أن تمتع الموظفين المباشرين بمناخ من التشجيع على الابتكار الجرىء، يزيد منسوب الثقة لديهم فى تبنى الذكاء الاصطناعى؛ وعندها فقط يمكن إطلاق القوة التحولية الإبداعية لتلك التقنية. لذا، يتعين على القادة تعزيز الثقة، وتهيئة البيئة التى تمكن الموظفين من مواجهة التحديات، بما يساعد على ملء فجوة الثقة، وخلق ثقافة عمل تدعم تبنى الذكاء الاصطناعى، تتكيف مع التغيير، وتوفر الشعور بالأمان لتعزيز الابتكار ودرء المخاطر.
عالميًا، فاقم فائض الأزمات الدولية من أزمة الثقة. فهناك تغير المناخ، تهديد الأمن والسلم الدوليين، تعاظم القيود على حركة التجارة الدولية والاستثمار، تباطؤ النمو الاقتصادى العالمى، وتزايد الفجوات التنموية بين الاقتصادات المتقدمة، النامية والناشئة. لذا، اعتبر علماء كثر العقد المنصرم «عقدًا مفقودًا آخر من التنمية المستدامة».
وفى نسخته الخامسة والعشرين، التى صدرت فى فبراير الماضى، بعدما استطلع آراء 33 ألف مشارك فى 28 دولة حول العالم، رصد تقرير «إيدلمان» للثقة، الذى يعد واحدًا من أهم المؤشرات العالمية المعنية بقياس مستويات الثقة بالحكومات والقطاعات المختلفة، أزمة ثقة عالمية متنامية. ولم يتردد التقرير فى دق ناقوس الخطر لانهيار العقد الاجتماعى على مستوى العالم، بجريرة: اتساع الفجوات بين الطبقات، شح مصادر المعلومات الموثوقة، والاعتقاد بأن الأنظمة المحوكمة تعمل ضد الأفراد لا لصالحهم.
كذلك، سلط التقرير الضوء على طائفة من الشكوك التى تغذى أزمة الثقة، وتنبعث من تحديات على شاكلة: اختلال الثقة بالقيادة الكونية، حيث ينكمش منسوب الثقة فى القيادة الأمريكية الحالية للنظام الدولي، خصوصًا فى ظل سعى إدارة ترامب إلى انتهاك القواعد الدولية، وتعظيم مصالح واشنطن على حساب باقى دول العالم، بمن فيهم حلفاؤها المقربون. تعاظم الفجوات الاقتصادية، إذ يعتقد اثنان من كل ثلاثة أشخاص أن الأثرياء لا يدفعون نصيبهم العادل من الضرائب، بما يتسبب فى أزمات شتى. وقد بلغت فجوة الثقة عالميًا بين الفئات ذات الدخل المرتفع والمنخفض 13 نقطة.
انحسار تفاؤل الأجيال القادمة بشأن المستقبل، ذلك أن نسبة 36% فقط من المستطلعة آراؤهم حول العالم تعتقد أن الجيل القادم سيكون فى وضع أفضل مما نحن عليه اليوم. فى حين سجلت فرنسا أدنى معدل للتفاؤل بين المشاركين بنسبة 9% فقط. وأخيرًا، جاء تنامى المخاطر الناجمة عن المعلومات المضلّلة. فقد أكدت نسبة 63% من المشاركين فى الاستطلاع صعوبة التمييز بين المصادر المضللة والموثوقة للمعلومات. وأعربوا عن الخشية من تضليلهم المتعمّد من لدن الصحفيين ووسائل الإعلام.
قبل انقضاء العام الماضى، أقر الدكتور مدبولى، رئيس الوزراء، خلال مؤتمره الصحفى الأسبوعى، بوجود ما أسماه «أزمة فى منسوب الثقة بين المواطن والحكومة». وهو الأمر الذى أرجعه إلى الضغوط الاقتصادية المتواصلة، التى تقض مضاجع المواطنين، والتعقيدات البيروقراطية المزمنة، التى تهدد جاذبية بيئة الاستثمار المحلية، وتنال من فعالية منظومة الضرائب الوطنية. وبينما لم يغفل الرجل العامل المتعلق بميل قطاعات جماهيرية عريضة إلى تصديق الشائعات، فقد ناشد المواطنين كافة تجنب الانجرار خلف الأخبار الكاذبة والسرديات المضللة. وهو الأمر الذى يستوجب تعاظم منسوبَى الشفافية والمساءلة، ليظلا درعًا واقيًا من هجمات حروب الجيل الخامس.