التعليم... الرؤية والرسالة والأهداف
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الإثنين 22 أكتوبر 2018 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
لا حديث عن إصلاح أى منظومة دون تطبيق معايير الجودة، وهى معروفة لدى القاصى والدانى: «الرؤية والرسالة والأهداف»، إن هذه المعايير أصبحت من أهم خطوات رسم فلسفة أى منظومة بغض النظر عن مجالها، وتجدر الإشارة إلى أن ظهور مفهوم الجودة بدأ فى ثمانينيات القرن الماضى بالولايات المتحدة فى خضم التنافس الاقتصادى العالمى، وغزو الصناعة اليابانية للأسواق العالمية، مما حول أنظار العالم إلى ضرورة الاهتمام بالإنتاجية والمردود والابتكار وتشجيع الكفاءات المختلفة.
وبالنسبة للتعليم فهى تعنى وجود مجموعة من الإجراءات التى تهتم بمواصفات كل من الخريجين من المدارس والجامعات، والتى يجب تنفيذها للوصول إلى حالة من التحسين المستمر تؤدى إلى تلبية متطلبات المجتمع، فيصبح لدينا مواطن يستطيع التعامل مع مستحدثات العصر، يؤمن بالتعددية الفكرية وبقبول الآخر، بالإضافة إلى تحقيق الملاءمة بين القيم وثقافة المجتمع من جهة، وبين التطور العلمى من جهة أخرى.
وذلك لن يتحقق إلا من خلال تجويد المناهج التى تهدف بشكل أساسى لتنمية المهارات المختلفة للطلاب، والحرص على «الكيف» بدلا من «الكم»، والابتعاد عن التعليم الأحادى الذى يقوم على جهد المعلم فقط دون مشاركة الطلاب، بالإضافة إلى تجويد البنية التحتية الخاصة بالمدارس والجامعات، وبكفاءة الموارد البشرية المتمثلة بالأطر التربوية والإدارية، من خلال تحسين الظروف المادية والعملية التى تساعد المعلمين على تقديم أفضل ما لديهم، كما يجب تحسين العرض التربوى فى كل من المدن والقرى من خلال العمل بمبدأ تكافؤ الفرص، وترسيخ السياسة اللامركزية التى تهدف إلى تقسيم المهام فى المؤسسات التعليمية.
وتسعى الرؤية (Vision) إلى تحديد الاحتياجات التى ترغب المنظومة بإشباعها فى المستقبل، عن طريق الربط بين القيم والأهداف المطلوبة من خلال تحديد نوع التعليم الذى تريد أن تتقمصه، فهى تجيب على السؤال: ما الهدف الذى تأمل المؤسسة الوصول إليه مستقبلا؟ فتضع تصورا لإقناع جمهور المنظومة وأفرادها بالخطة الاستراتيجية الخاصة بها، والتأكد من احتواء تلك الخطة على طموحات أفضل من الماضى، فهى حلم تصبو لتحقيقه لاحقا.
أما الرسالة (Mission) فهى تلخص الرؤية وتعبر عن واقع المنظومة، وترسم فلسفة أبرز أهدافها الحالية، وتوفر إجابات عن الأسئلة الآتية: ماذا تفعل المنظومة الآن؟ وكيف ستفعل؟ ولمن تفعل؟
***
هذا عن الجانب النظرى، أما عن الجانب العلمى والعملى، فمن المعروف أنه لا يوجد فى التعليم سوى نظامين: الأول هو النظام الاستقرائى أو التلقينى Inductive والثانى الاستنتاجى أو الإبداعى Deductive.
ويعتمد النظام التلقينى على جمع المعلومات والتدريب على الالتزام بقاعدة يجب الانصياع لها، وكذلك التدريب على التوجه من الخصوصيات إلى العموميات، فهو على شكل هرمى يبدأ من القاعدة وينتهى إلى القمة، أى إن القاعدة فى خدمة القمة، وبالتالى الجميع فى خدمة الرئيس، على عكس ما يجب أن يكون.
ويُكرس هذا النظام للسمع والطاعة، وهو نظام لا يُطبق إلا فى الدول ذات النظام الشمولى الذى يُسخر المواطن لخدمة فكرة واحدة ونظام واحد وشخص واحد، فيتميز صاحبه بضيق الأفق، ويصبح متطرفا لا يقبل الآخر، وينتج من هذا النوع من التعليم علاقة مطردة بين التحصيل العلمى والقدرة على الإبداع، فكلما ازداد تعليم الفرد كلما ازداد ضيق أفقه!
وهذا ما يحدث فى نظامنا التعليمى الحالى (أو لنقل السابق)، وقد أدى هذا وحتى قيام ثورة 25 يناير إلى نظام سياسى واحد يرفض التعددية، تمثل فى «الاتحاد الاشتراكى» وانتهى بـ«الحزب الوطنى»، وعلى الوجه المعارض وجدنا فرقة ترفع «الإسلام هو الحل» باعتبار أن المجتمع جاهليا لا يطبق شرع الله! كما كانت نتيجة جميع الاستفتاءات 99,99% لصالح الحزب الواحد ولرئيسه، وقد كانت النتيجة المؤلمة لهذا الفكر أن وقعنا فى هزيمة 1967.
وأما النوع الثانى وهو «الاستنتاجى»، فهو على عكس الأول يبدأ من العموميات وينتهى إلى الخصوصيات، فتكون البداية من قمة الهرم متجهة نحو القاعدة، فالقمة تكون فى خدمة القاعدة العريضة، وهذا النوع من التعليم هو الذى يطبق فى كل الدول المتقدمة صاحبة النظم المتعددة، والذى من شأنه أن يبنى فردا تتسع آفاقه بالتعليم، وأهم ما يميز هذا النوع أنه يساعد على تنمية الإبداع والابتكار، واحترام الرأى الآخر، والقضاء على التطرف، وأهم ما فيه أيضا أنه يقلل من الاعتماد على المدرس الذى يلقن الطالب، وبالتالى يؤدى إلى القضاء على الدروس الخصوصية ــ آفة التعليم التلقينى ــ وكذلك التخلص من ظاهرة العبقرية الكاذبة فى مجاميع الثانوية العامة والتى تبلغ الكمال بالحصول على مجموع يتعدى الـ 100%!
***
نرى إذن أن الفارق بين نوعى التعليم جد واضح، الأول يبنى فردا متجمدا مثل الكمبيوتر ملىء بالمعلومات، بينما الثانى يعمل على تكوين فرد مبدع ومبتكر قادر على صنع الكمبيوتر، وعلى مواجهة تحديات العصر الحديث، كما أنه يسهم فى تطوير مجتمعه، فيحول الفرد من مستقبل إلى مرسل، ومن مستهلك إلى منتج، ومن مستورد إلى مصدر، ومن أُحادى النظرة إلى معتدل ذى أفق واسع يتقبل الآخر.
وإذا انتقلنا إلى الجانب التجريبى أو التاريخى والأدبى، نجد فيه ما يؤيد وجهة النظر السابقة، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اكتشفت شعوب أوروبا أنها مرت بكارثة، دُمرت فيها الجيوش والاقتصاديات، وفقدت فيها ملايين المواطنين نتيجة لتطرف فكرى جسدته النازية، والمفزع فى هذا الأمر أن هذه الحروب قامت بين شعوب متجاورة ومتجانسة، لها حضارة غربية واحدة، تؤمن بمفاهيم واحدة!
تساءل المحللون حينئذ: «لماذا» و«كيف» تحول أبناء كانط ــ صاحب نظرية النقد العقلى المبنى على الأخلاق وتحكيم الضمير، وهيجل ــ صاحب النظرية المثالية ــ إلى هذا التطرف والعنف الذى دمروا بهما أوطانهم وأوطان الآخرين؟ فكانت الإجابة عن «لماذا» بديهية: الحكم الاستبدادى وجنون السيطرة والتمكين لدى هتلر، وعن «كيف» استطاع أن يسيطر على عقول أبناء عمالقة الفلسفة الأخلاقية والمثالية؟ وجد الباحثون أن أى ديكتاتور لابد أن يسيطر على ثلاثة أجهزة: الجيش والإعلام والتعليم، فكان هتلر قائدا للجيش وجوبلز رائدا للإعلام المُزيف والمُضلل، أما التعليم فكان يُطبق التعليم «التلقينى»!
***
عبر عن هذه المأساة الإنسانية التيار الأدبى المعروف بـ«العبث» أو باللامعقول «Absurde»، وكان من أشهر رواده يونيسكو Eugène Ionesco، وقد كشف هذا التيار عن عبثية هذه الحروب التى لم تفض إلى شىء، ومن أهم مظاهره أن الكلمات لم تكن تعبر عن مضمونها، ولكنها كانت تنقل فراغا، فهو مسرح «اللا شىء» أو «اللا مضمون»، ففى مسرحية «المغنية الصلعاء» ليونسكو (La cantatrice chauve) (1950) لم ير المشاهد لا مغنية ولا صلعاء، وفى مسرحيته «الدرس» (La Leçon) (1950) لم نجد إلا درسا تلقينيا لا مضمون له من الأستاذ إلى تلميذته، فألغى شخصيتها، ومن ثم اغتصبها وقتلها فى نهاية المسرحية كما قتل أربعين تلميذة قبلها فى نفس اليوم!
فالكلمات إذن لم يكن لها مدلول مثل الحروب العبثية التى وقعت، وحصدت الملايين دون أدنى مبرر، ومثلت نوعا من الجنون الذى هو أهم صفات التطرف والتعصب، رأيناه فى السياسة مع هتلر وصدام والقذافى، وفى الفكر وجدناه فى تكفير الآخر فى نظرية جاهلية القرن العشرين لسيد قطب ومع أتباعه.
والآن وقد قام الشعب المصرى بثورتين عظيمتين ثارتا على التطرف بوجهيه الاستبدادى والفاشى، ولكن من المؤكد أن هاتين الثورتين لن تؤتيا بثمار جيدة إلا إذا حدثت ثورة ثالثة هى الأهم: ثورة التعليم التى من شأنها أن تقود الوطن والمواطن نحو مستقبل مشرق، يتجاوب مع متطلبات العصر، ويقيم التجانس بين أفراده، وينبذ العنف وينشر السلم والسلام فى كل ربوع الوطن الحبيب.