ما أشعلته نوبل «محفوظ» من حرائق!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 22 أكتوبر 2022 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
منذ أن انتزع إبداع نجيب محفوظ، للمرة الأولى فى تاريخ اللغة العربية، والأدب العربى، والثقافة العربية ككل، جائزة نوبل المرموقة فى الآداب فى أكتوبر من العام 1988 والتى كان حصوله عليها حدثًا تاريخيًا (كما يصفه الناقد الراحل جابر عصفور) فإن موقع الأدب العربى قد انتقل إلى صدارة المشهد الأدبى العالمى، آنذاك، وأصبح مجالًا خصبًا للبحث والدراسة وتنامِى الاهتمام به والبحث عن روائعه شعرًا ونثرًا، وفتح الأبواب المغلقة أمام نقل هذه الروائع، خصوصًا فى فن الرواية أو شعر الدنيا الحديثة (كما أطلق عليها محفوظ نفسه)، إلى لغات العالم الحية.
ومن يومها، وكما يؤكد النقاد الثقات ومؤرخو الأدب فى الجامعات المصرية والعربية وغيرها فى أوروبا وأمريكا، تشهد حركة الترجمة الأدبية، فى محافلها الدولية، إقبالًا متزايدًا على الترجمة من اللغة العربية للأعمال الروائية التى كتبتها أجيال متعددة، استمر حضورها الإبداعى وتواصل، بعد أن قبست النار المقدسة التى أشعلتها أعمال محفوظ على امتداد الأرض العربية (بتعبير جابر عصفور).
ولم تقتصر عملية الترجمة على الجيل الذى ينتمى إليه محفوظ فقط أو ما سبقه من أجيال، بل تجاوزته إلى جيل الستينيات الشهير ثم السبعينيات وما بعدها، وصولا إلى المبدعين المعاصرين فى مصر وجميع أنحاء العالم العربى، خصوصا فى السنوات العشر الأخيرة.
ــ 2 ــ
قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الآداب، لم يكن أحد يجرؤ على طرح اسم عربى للترشح للجائزة باستثناء أسماء طه حسين وتوفيق الحكيم (وربما على استحياء اسم يحيى حقى).. وقد ثبت بعد ذلك أن طه حسين وتوفيق الحكيم قد رشحا من قبل جهات ومؤسسات لنيل الجائزة، وإن كانت مؤسسة نوبل ذاتها فيما أعلنته من وثائقها السرية التى أفصحت عنها بعد مرور خمسين سنة، أن اسم طه حسين كان قد رشح بصورة رسمية مثبتة فى أوراقها.
من جهته كان نجيب محفوظ على يقين بأن نوبل إذا ذهبت إلى أحد من أبناء العربية فلا يمكن أن تتجاوز اسم توفيق الحكيم الذى كان يعتبره محفوظ المؤصل الأول والحقيقى للفن المسرحى والروائى فى أدبنا العربى الحديث. وكان محفوظ صادقا تماما فى تقديره واحترامه الكبيرين لاسم توفيق الحكيم ومكانته الكبرى فى تأسيس وتأصيل الأنواع الأدبية الحديثة؛ كما صرح بذلك مرارا وعبر بحروف وكلمات تكاد تتشابه عن هذه الفكرة.
وما أكثر من حدثته نفسه بالجائزة المرموقة فى حياتنا الأدبية آنذاك، ولهم كل الحق فى ذلك، لكن المشكلة كانت على الحقيقة، ومع كل التقدير والاحترام لهذه الأسماء وإبداعاتهم، أنهم جميعا كانوا يقدمون إبداعاتهم فى مناطق وزوايا محدودة جماليا وإنسانيا، أو اقتصارا على قضايا وموضوعات بذاتها (إدوار الخراط، يوسف إدريس، فتحى غانم، وغيرهم).
ولم يكن هناك من مشروع إبداعى متكامل استطاع أن يستوعب جماليات الفن الروائى كما ظهر فى أوروبا وتطوراته على مدى قرن ونصف القرن وأن يقدم تجربة إبداعية استوعبت هذه الجماليات وطورتها وأضفت عليها أيضا مسحة من خصوصية فريدة تجلت فى اللغة التى طوعها محفوظ بامتياز للفن الروائى وأثبت أن اللغة العربية قادرة بامتياز على أن تقدم للعالم أدبا روائيا وإبداعا سرديا يقف على قدم المساواة إن لم يتفوق أيضا على كثير من الأعمال التى أبدعت بلغات أخرى وفى آداب متنوعة من آداب العالم.
ــ 3 ــ
لكن على ما يبدو فإن تطلعات بعض الكتاب والأدباء المصريين بالأخص، وبعض الكتاب العرب، إلى الجائزة المرموقة لم تكتف بهذا التطلع بل جاوزته إلى النيل من محفوظ شخصيا بعد أن فاتتهم نوبل، وذهبت إلى من يستحقها بجدارة. ورغم حالة الفرح الشعبى والعارم بفوز محفوظ بالجائزة فإنه ما كادت تمر أسابيع معدودة حتى اندلعت الحرائق تهاجم محفوظ، وتحاول أن تنال منه على كل المستويات؛ أدبيا وإنسانيا، وتتهمه بأبشع التهم، وفى الوقت الذى تنمرت فيه تيارات التطرف الدينى واستُنفِرت جماعات الإسلام السياسى التى شنت حملات شرسة ومجنونة على محفوظ، وركزت هجومها بالطبع على «أولاد حارتنا» مدعية أنه فاز بنوبل لأجلها! أقول فى الوقت ذاته، انفتحت جبهة أخرى قادها بعض الكتَّاب للأسف ممن أفرغ كامل طاقته وغضبه وثورته على محفوظ الذى فاز بالجائزة، ولم يفز بها من كان يتطلع إليها ويسعى لنيلها بكل الطرق والوسائل!
وكان مما أذاعه بعض هؤلاء ــ فى معرض اتهامهم لمحفوظ ــ بأنه لم يكن لينال نوبل لولا دعم الصهيونية العالمية له!! وأن إسرائيل قد ساندت محفوظ لموقفه من اتفاقية السلام!! أو لمواقفه السياسية التى كانوا يرونها مؤيدة للنظام المصرى فى سياسته الخارجية تجاه القضية الفلسطينية، منذ أعلن الرئيس السادات عن مبادرته للسلام، وزيارته لإسرائيل ومن ثم توقيع اتفاقية السلام فى كامب دافيد عام 1979.
ــ 4 ــ
الغريب والمدهش فى هذه الاتهامات العجيبة التى لا تصمد أمام أى تفنيد عقلانى أنها فعلا متهافتة للغاية وخطابية للغاية وكان باديا للجميع أنها مجرد «شوشرة» و«طلقات صوت فارغة» الغرض منها إفساد الفرح، ولا شيء آخر.
ولعل من بين أبرز أهم الردود التى كتبها بعض النقاد العارفين بأدب محفوظ ونصوصه، ومنهم الراحل الكبير رجاء النقاش على سبيل المثال قد أكد مرارًا أن من أراد أن يعرف محفوظ على الحقيقة فليذهب مباشرة إلى أدبه نفسه، ونصوصه المدهشة التى حمَّلها خلاصة آرائه ومواقفه النقدية الحقيقية فى السياسة والاجتماع والتأملات الفلسفية والنظرة إلى العالم وعلاقتنا به، ومتخذا من «الحارة المصرية» تكثيفًا مصغرًا للكون، بأسراره الفيزيقية والميتافيزيقية، بواسطة عقل مبدع فذ، قادر على أن يجمع الرؤى الكونية والهموم الإنسانية فى رموز لا نهاية لثرائها، تبهر القراء بجمالها وتعدد مستوياتها ونفاذ رؤيتها.