الحاجات الحلوة اللى حصلت لها فى حياتها
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 22 أكتوبر 2024 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
أعود راضيًا إلى قناعة تولدت فى شيخوختى المبكرة عندما اكتشفت فى أطفالنا مصدرًا للحكمة وتفسيرًا أو تبريرًا لبعض تصرفاتنا.
• • •
خطر لى ذات يوم من أيام الجمعة، يوم اجتماع عائلتى، أن أهدى «ليلى» ثانى أكبر أولاد الأحفاد وقد بلغت العاشرة من عمرها أن أهديها شيئًا مفيدًا وبخاصة بعد أن سمعت عن اهتمامها المبكر ببعض الملخصات عن مسرحيات شهيرة فى الأدب العالمى بل وبالتمثيل على خشبة المسرح فى المدرسة دور أو آخر منها. الشئ المفيد كهدية منى كان كراسة أنيقة.
• • •
شرحت لليلى، وأنا أقدمها لها سعيدًا بما سمعته عنها، أن الكراسة، كما تعرفت على مثيلتها صغيرًا ورجعت لها كبيرًا، مخصصة لكتابة يومياتنا، يومًا بيوم. نصحتها، وهى تقبلنى شاكرة، أن تعتبر يومياتها مستودع كل أسرارها مطمئنة إلى أن أحدًا فى البيت لن يقرأها فى غيابها. لم أنسَ، على كل حال، أن أطلب من أمها، التى هى حفيدتى، أن تطمئن ابنتها إلى أنها لن تسمح لأحد الاطلاع على اليوميات.
• • •
مرت أيام، لعلها شهرًا أو أكثر، قبل أن أعود إلى «ليلى» فى زيارة الجمعة «المقررة»، لأسألها عن حصيلة تجربة علاقتها بيومياتها. أجابت بسرعة وبثقة فيما تنوى أن تقول. قالت ما معناه: «يا جدى، فكرت طويلًا مساء كل يوم قبل أن أمسك القلم عن ماذا حدث لى خلال النهار يستحق منى الكتابة عنه. تعرف يا جدى، أجد نفسى فى حيرة. لم يحدث خلال كل تلك الأيام ما يفرحنى فيستحق أن أكتبه الآن من أجل أن أقرأه وأنا فى سن متقدمة. أريد أن أتذكر فقط عندما أكبر كل ما أبهجنى وأدخل السعادة إلى قلبى خلال حياتى. وبالتأكيد لا أريد أن تكون هناك كراسة أو يوميات تذكرنى بأننى لم أكن سعيدة وأنا طفلة أو مراهقة أو امرأة كما كان يجب أن أكون».
• • •
غادرت الطفلة مع أمها وشقيقتها ووالدها البيت مخلفة وراءها نقاشًا حادًا اشتعل فى داخلى. هل معنى ما قالته «ليلى» أننى عندما كتبت عن شوارع وميادين ومدن فى حياتى وعن تجاربى فيها أو معها لم أكتب إلا عن كل ما أبهجنى وتفاديت أكثر ما أزعجنى أو ضايقنى. عدت إلى ما كتبت لأتأكد وقضيت بقية ليلتى أناقش هذا الأمر بعد أن وجدت نفسى مذنبا. المؤكد أننى لم أخترع ما يبهج فما سطرته ذاكرتى سجلته. المؤكد أيضًا أن فيما كتبت ونشرت لم يكن للتعاسة أو التشاؤم نصيب يذكر. يعنى كنت بالفعل سعيدًا وفرحًا أو على هذا النحو سجلت ذكرياتى هذه المرحلة من حياتى ورفضت، وأقصد الذاكرة، تسجيل أى شعور بغضب أو ضيق أو تعاسة.
• • •
بمعنى آخر، هل يمكن أن يكون لطبيعتنا البشرية، إن صح التعبير، دور فى محاولات جعل التقدم فى العمر مرحلة مريحة ومبهجة، أو على الأقل، مرحلة يزيد فيها عناصر البهجة على عناصر البيئة الحاضنة وقتذاك من حروب وظلم اجتماعى ودولى وخيبات أمل، كنا فى انتظاره. غريب أن معظم من عرفت من زملاء العمر المتقدم راحوا يثمنون هذا المعنى. أغلبهم تساءل إن كان هذا المعنى وراء رغبتنا فى أن نقضى وقتًا أطول مع أطفالنا، وإن على انفراد فى الحدائق أو نصحبهم إلى دور السينما التى تبث لصغار السن أفلامًا بالرسومات والمغامرات.
• • •
أتساءل أنا نفسى إن كنت فيما كتبت عن مدن تركت أثرًا فى حياتى أن أهمل عن عمد الإشارة إلى واشنطن أو وارسو أو بلجراد أو كلكتا أو كراتشى أو نيروبى أو فالبارايسو رغم أننى زرتها جميعًا أو عملت فى بعضها. هذه مدن لا أضمر لها غير الخير لكنها بالتأكيد لم تترك فى سجل ذكرياتى ما يستحق الاقتباس دليلًا على الأثر الذى خلفته فى نفسى. بل إن مدنًا أخرى لم يرد ذكرها فيما كتبت عن المدن التى تركت أثرًا، وبدقة أعمق، المدن التى أثرت حياتى، هذه سجلتها ذكرياتى، ولم يتسع لها عمود انطباعات الشروق.
• • •
غالبًا ما سجلت ذاكرتى بكائى ليل نهار وأنا طفل رضيع أو أكبر وامرأة أو أخرى من نساء، فى بيت جدتى فى مرجوش أو فى العمارة التى كنا نقيم فيها بحى الديوان بالتناوب مع بيت العائلة، يمشين بى ذهابًا وإيابًا حتى يغلبنى النوم فأنام. سجلتها الذاكرة لكنها لا تذكرنى بها إلا لمامًا على عكس ما تفعل مع ما سجلته عن فترات إقامتى فى مشربية غرفة «القعاد» فى بيت جدتى. فعلت هذا أو تفعله حتى الآن ربما لأن التجربة كانت ممتعة لى، كانت بمثابة نزهة يومية بين عشرات المارة وعلى أصوات الدق على النحاس فى دكاكين صنع أوعية الطعام وعلى منظر المصلين بجلاليبهم الناصعة البياض، وهم خارجون من الجامع المواجه للبيت.
• • •
أتصور أن لمزاج الطفل وبهجته دورًا فى ترتيب أولويات ما تسجله الذكريات وتحفظ منه ما يستحق أن يحفظ ليعود الإنسان بين الحين والآخر خلال سنوات تقدمه فى العمر إلى ما ارتاح إليه وأحبه وهو طفل. نوع من الحنين إلى أيام الأحضان والرعاية والحب المتناهى.