من منكم بلا سعر؟
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 22 نوفمبر 2015 - 11:40 م
بتوقيت القاهرة
فى البدء كانت قائمة الأسعار هى للإعلاميين والصحفيين.. أولئك الذين حولوا المهنة فى أحد أهم المراحل من تاريخ هذه المنطقة إلى بازار لمن يقوم بحلقات من الكتابات المتواصلة حول الانتهاكات فى بلد عربى ما.. وللمصادفة البحتة جدا يكون البلد نفطيا بتفوق. اعتاد الكثير من الرؤساء والزعماء والملوك أن يرصدوا هذه الفئة من التجار وأن يقدموا لها أو لكل واحد منها ثمنه …اختلفت الأسعار بعض الشىء وتفاوتت عمليات البيع والشراء حسب الشخص وقلمه وأهمية الاثنين.. لم يلبث وأن بدأ البث الفضائى وحين تحول الكثيرون إلى ما أسموه البرامج الحوارية بقنوات تليفزيونية مسيسة، وفى كثير من الأحيان هى الذراع الأولى لعدد من وزارات الخارجية المتواضعة فى الدبلوماسية أو حديثة العهد بها.. هنا أيضا كان لكل مقدم برنامج أو مذيع أو أو.. كان لكل منهم ثمن.. ففى عرف القائمين على هذه الدويلات، مهما كبر شأنها، يبقى الإنسان سلعة قابلة للبيع والشراء حتى يثبت هو أو هى عكس ذلك وحتى الآن حولوا ذلك إلى نظرية فى الدبلوماسية الدولية الحديثة على النمط النفطى جدا!!!
***
مع الوقت تحولت القوائم الطويلة من الصحفيين إلى رجال السياسة والعمل العام والمطالبين بحقوق الإنسان حتى وصلت إلى رجال ونساء الفكر عندما فكر بعض تجار الدبلوماسية المدفوعة الثمن أنهم بحاجة إلى مراكز بحثية تابعة حتى النخاع لهم و«مطبلة» لسياساتهم ومبررة لكل خروقاتهم خاصة منها تلك المرتبطة بحقوق الإنسان.. أتذكر ذاك الصديق الذى قضى حياته مطارد ومكروه من قبل الأنظمة القديمة والحديثة منها حتى أنه اعتاد جلسات التحقيق المطولة التى يسأل فيها عن من يدفع له «ليشوه سمعة» هذا البلد أو ذاك… هذا الصديق وفى إحدى دعوات العشاء المشبوهة مع وزيرة اشتهرت جدا بصولاتها وجولاتها على شاشات التلفزة مدافعة باستماتة عن ممارسات هى فى أبسطها تعد انتهاكا صريح للعهد الدولى لحقوق الإنسان، يقول الصديق إنه تصور أن العشاء لم يكن سوى محاولة من الوزيرة لكسب وده.. هكذا تصور ذاك الساذج بعض الشىء حتى ادعت أنها ترد على هاتفها أو أحد هواتفها وتركته مع أحد مساعديها الذى قدم له عرضا شديد الإغراء للعمل معهم على تحسين صورة ذاك البلد فى المحافل الدولية وخاصة منها الخاصة بحقوق الإنسان.. فى ذلك المساء يقول صديقى أنه أصيب بشىء من الغثيان و«القرف» لأنه وللمرة الأولى يعرف أن لكل إنسان ثمنا فى نظر هذه الوزيرة وغيرها…
***
انتهت روايته لنقرأ الكثير أخيرا عن مراكز أبحاث ودراسات ليست كلها متمركزة فى بلداننا بل كثير منها فى عواصم المدن الكبرى حيث مراكز الأبحاث التى كنا نتصور بأنها نزيهة وعلمية جدا حتى انكشف أخيرا فى أحد التقارير أن فى معظمها قد تم شراؤها من قبل حكومات محددة وخاصة بعد ما سمى بـ «الربيع العربى» الذى أصاب الكثير من الحكام بالذعر الشديد رغم أنه ما لبث وأن تحول إلى فصل خريف دامى وشديد الظلمة إلا أن شراراته الأولى قد أصابت الكثير منهم بالفزع. وفيما أدركوا الدور الكبير الذى لعبته محطات التلفزة الإخبارية المختصة جدا فى الترويج لفصيل أو مجموعة مقابل الأخرى أو الدفاع عن نظام بعينه، ما لبثوا وأحسوا بأن عليهم أن يسيطروا أيضا على المراكز البحثية التى أصبحت دراساتها تشكل خطرا شديدا عليهم أيضا كما هو خطر عدسة الكاميرا وشريط الأخبار المصورة..
هنا أيضا أصبح لكل باحث سعر فى سوق الثقافة والبحث العلمى اللذين لم يسلما من ذاك المرض الخبيث جدا الذى ساهمت حكومات كثيرة وأنظمة فى نشره.. فكان إن سمعنا بذاك القومى والعروبى صاحب الرأى الحاد والصارم، ذاك الذى تحول فجأة إلى مرجعية فى الثورات العربية يصنفها حسب وكيف ما طلب منه من دفع له.. اكتشفنا فجأة أنه هو الآخر قابل للشراء ربما بثمن أكثر وأرفع من الآخرين ولكنه أيضا مجرد رقم على قوائمهم التى تطول كثيرا مع الزمن وكلما أضيفت لها أسماء لامعة وجنسيات جديدة…
وفى استشراء المرض يقوم الباحثون الكبار بإغواء الباحثين الشباب وصغار السن.. أولئك الطامحون إلى مركز يمنحهم المساحة الفكرية للكتابة والبحث والذى يدفع لهم ما يساعد فى بناء حياة مستقرة، فتستقطبهم هذه المراكز ومعظمها متمركزة فى عواصم بعينها وهى العواصم نفسها التى لم يصلها ذاك الذى سموه عدوى الثورات العربية أو عدوى الربيع العربى.. هذه العواصم ذات الفصل المناخى الواحد والتى لا تسمح بأية حرية غير حرية الاستهلاك حتى آخر درهم أو دينار أو ريال..
هذه العواصم والمدن المشوهة التى قد يستطيع أحدهم أن يكتب يوما عن كم التشويه الذى خلقته فى تاريخنا الحديث ولأجيال كثيرة قادمة لم يسلم منها حتى المفكرون والباحثون ورجال ونساء كانوا يشكلون القدوة..
***
ويبدو أن قائمة من اشترى ومن باع قد طالت وطالت حتى شملت بعض الموظفين العاملين فى المؤسسات الدولية وأخيرا خرجت لنا الجارديان بفضيحة المبعوث الخاص الذى انتقل إلى وظيفته الجديدة فى مركز للأبحاث فى تلك المدينة الاستهلاكية.. ذاك الذى فضحته رسائله على البريد الالكترونى والذى قرم العديد من المبررات كلها كانت كما يقول المثل العربى «عذرا اقبح من ذنب».
هو كآخرين جىء بهم ليكملوا حكاية مدينة تبحث عن دور أو عن صورة مختلفة.. مدن احتكرت فن العمارات الشاهقة والمراكز التجارية وأخيرا أضافت لها قوائم من المتاحف والجامعات والمراكز البحثية وغيرها.. كله كما قال ذاك الوزير «يشترى بالمال ونحن نملك منه الكثير!!!!».
***
لكل ثمنه. هكذا يعرف الأعراب ولكل وسيلته ولا شريف فيكم.. هكذا يمد ذاك الطفل المعجزة، الذى أصبح يجالس كبار رجالات ونساء السياسة والمال، لسانه لنا وللعالم ويكرر كلكم قابلون للشراء والبيع تختلفون فقط فى الأثمان بعضكم أكثر ثمنا من الآخر خاصة إذا كان أوروبى أو أى جنسية غير العربى لأن أرخصكم فى القائمة هو العربى الذى كان يوما يناطح طواحين الهواء ويردد كل الانتقادات بحق، هو نفسه الآن يقف ليدافع عن المركز البحثى الذى يرأسه ويديره بنفس عقلية إدارة المراكز التجارية التى تزدحم بها مدنهم…