جيش شعب مصر
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 22 نوفمبر 2015 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
كنت هذا الأسبوع مدعوا لحضور مؤتمر عن أزمة اللاجئين فى أوروبا، والجهة المنظمة كانت جامعة "هيرتى" للحوكمة فى برلين، أما الجهة المستضيفة فكانت الجامعة العسكرية الفيدرالية فى هامبورج.
ركبت الطائرة من دنفر في الولايات المتحدة إلي فرانكفورت فى ألمانيا، قبل الإقلاع لاحظت أن شاشات المطار تطلب من المسافرين دعم قوات الجيش الأمريكى فى مهامه الخارجية "القومية" ولم تحدد الشاشات عن أي مهمة تتحدث، أو ربما أنا الذي لم ألحظ. قبل الإقلاع دعت المضيفة الأرضية الأسر المصطحبة للأطفال، وكبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة وقوات الجيش إلي أولوية الصعود إلي الطائرة، وعلى متن الطائرة تابعت إحدى القنوات الفرنسية التى أخذت تبث على الهواء بالإنجليزية أخبار الضربات الجوية الفرنسية لأهداف داعشية فى سورية مع لهجة داعمة وبوضوح لمهام الجيش الفرنسي فى ضرب الإرهاب. على متن الطائرة وأنا بين النوم والصحيان تذكرت كم مرة دعتني فيها بائعة المحل التجارى الذى لا يبعد عن بيتي كثيرا أن أتبرع للجيش الأمريكى، وحينما ذكرت لها فى إحدى المرات إننى لست أمريكيا، فقالت بفخر إنه جيش ينقذ العالم. لم أجادلها وانصرفت بهدوء دون أن أتبرع لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، وتذكرت أن اليوم الذي سبق السفر كانت نهاية الفصل الدراسي وطلبت مني إحدى الطالبات التحدث لزملائها في الدقيقة الأخيرة من المحاضرة، أعتقدت أن الطالبة ستطلب من زملائها الإبقاء على تواصل أو ستطلب منهم المشاركة فى نشاط طلابى معين ولكنى فوجئت بها تذكر زملائها بلهجة عاطفية واضحة لماذا سيحتفل الشعب الأمريكى بعيد الشكر الأسبوع الأخير من نوفمبر وتذكرهم بهؤلاء الجنود الذين سيقضون العيد بعيدا عن أسرهم للدفاع عن الدولة وتطلب منهم الدعم المعنوي للجيش الأمريكى.
***
وصلت إلي هامبورج بعد رحلة طويلة عبر فرانكفورت، وكنت حريصا على قراءة العيون الأوروبية ونظرتها لما يحدث بعد أحداث باريس الإرهابية، لم ألحظ شئ غير اعتيادى فى إجراءات الأمن على الإطلاق، لكنني لاحظت القلق والانتباه في أوجه بعض المسافرين. فى الرحلة الداخلية من فرانكفورت إلي هامبورج تعرفت إلي جيرانى فى الطائرة وهما رجل وزوجته من هامبورج لكنهما يعيشان فى الدومينيكان حيث تعمل الزوجة فى أحد المتاحف هناك فى بعثة للحفاظ على الآثار مدفوعة بواسطة الحكومة الفيدرالية الألمانية، بينما زوجها عسكرى ألمانى متقاعد منذ ١٠ سنوات وتبادلنا أطراف الحديث عن ما يحدث ولاحظت قلقهم لما ستؤول إليه الأمور مع حديث الزوج بفخر عن ماضيه العسكرى فى برلين وعلاقته بالقوات الأمريكية تدريبا وتسليحا.
فى المؤتمر بدأ عمدة هامبورج بالحديث عن دور ولايته فى إيواء اللاجئين وأكد أن دورهم يتخطى مجرد الإيواء ويمتد إلي محاولة دمجهم فى المجتمع، كما تحدث جنرال فى البحرية الألمانية عن دور وحدته فى التعامل مع اللاجئين القادمين عبر المتوسط وتأكيده أن المجتمعات المفتوحة لا يجب أن تخشي من اللاجئين ولكن يجب فقط أن تضبط إجراءات قدومهم لتتأكد أن ليس من بينهم خطرين، مؤكدا أن بلاده لن تتوقف عن مساعدتهم ولن تجعلهم يدفعون ثمن إرهاب لا ذنب لهم به.
تحدثت مع نائب رئيس الجامعة العسكرية وأوضح لي كيف أن أكثر من ٧٠٪ من الأساتذة والإداريين العاملين في الكلية من المدنيين، وأن حوالي ٤٠٪ من المقررات التى تعد الضباط الشباب للحياة العسكرية هى مقررات مدنية تركز على القانون والعلاقات الدولية والعلوم السياسية والقيم المدنية والتاريخ. لاحظت كيف تسير العلاقة بين المدنيين والعسكريين في الجامعة العسكرية، فالأساتذة ببذل مدنية والطلاب بزى عسكرى والكل يتفاعل بحب ومودة واحترام فى إطار من التوازن بلا مبالغات أو نفاق أو تراتبيات هيراركية.
انتهي المؤتمر بحضور عرض مسرحى يعكس معاناة اللاجئين وحرصت على عكس عادتي على انتظار الممثلين وهم من اللاجئين السوريين والفلسطينيين المتعاونين مع فنانين ألمان ووجدت نفسي مدفوعا بالخوف والقلق على حال مصر أسألهم على أحوال بلادهم وكيف يعيش من تبقي منهم في الداخل السوري تحت قوات نظام الاسد أو داعش أو النصرة وتلقيت إجابات مؤلمة ذهبت بخوفي على بلدى إلى أفاق بعيدة.
***
انتهت الرحلة فى هامبورج، وتبقى فى ذهنى سؤالان يحتاجان لإجابات عاجلة، الأول كيف تمكنت تلك الدول (أمريكا، ألمانيا، فرنسا) من تحقيق ذلك التوازن فى العلاقات بين المدنيين والعسكريين؟ أما الثانى، فهو كيف يمكننا فى مصر ضبط تلك العلاقة، بحيث يظل للعسكريين احترامهم ودعمهم، وفى الوقت ذاته يتمكنوا من التفاعل باحترافية مع شؤون البلاد الأمنية والدفاعية فى ظل تعاون وتفاعل وحضور حقيقي للمدنيين وخصوصا فى ظل هذه الأوضاع المضطربة بشدة فى الإقليم؟
خلال تلك الرحلة كان واضحا أهمية المؤسسة العسكرية فى البلاد الأكثر حضورا على مؤشر الديموقراطية على مستويات اجتماعية وثقافية وأمنية. فإعلان مطار دنفر الداعم للجيش واعطاء العسكريين أولوية فى ركوب الطيارات المدنية وإصرار جارتى فى المتجر القريب علي التبرع للجيش رغم علمها بأني لست أمريكا وطلب طالبتى الأمريكية من زملائها الدعم المعنوي للجنود الأمريكيين في مهماتهم الخارجية على هامش الاحتفال بالأعياد ولهجة الإعلام الفرنسي الداعم للجيش فى عملياته الخارجية، وتنظيم جامعة عسكرية لمؤتمر مدني-عسكري لمناقشة قضايا دولية ووطنية يؤشر بوضوح على الاحترام والتبجيل الذي تحصل عليه تلك الجيوش في مجتمعاتها. ومن ناحية أخرى فاحترام العسكريين للقيم السياسية والمدنية وتصرفهم بشكل احترافي للدفاع عن الوطن بعيدا عن التورط فى الشأن السياسي أو المشاركة فى الدعاية السوداء، وقبولهم بتعليقات المدنيين على مهامهم العسكرية سلبا وإيجابا دون تخوين أو مزايدات باسم الوطنية، بل وجلوسهم موقع التلميذ من الأستاذ في قاعات الدراسة التي تجمع بين العلوم العسكرية والمدنية/السياسية يوضح التوازن في هذه العلاقة.
***
أما عن الإجابة عن السؤال الأول، فإنه ببساطة يتعلق بالتعلم من الخبرات التاريخية الصعبة التى كلفت الجميع أثمانا غالية وعلمتهم كيفية وأهمية الحفاظ على التوازن بين العسكريين والمدنيين. لا نحتاج أن نكون أمريكيين أو فرنسيين أو ألمان أو حتى يابانيين وتشيليين كي نفهم أهمية وكيفية ذلك التوازن. يكفي أن نقرأ التاريخ بهدوء بعيدا عن جو الهيستريا والتخوين لنتعلم الخبرات التاريخية من الآخرين ومن تاريخنا القريب لنضبط تلك العلاقة.
أما عن السؤال الثانى، ففى تقديرى وبعيدا عن التنظير نحتاج إلى فهم متبادل مؤسس على مجموعة من المبادئ الأساسية المتمثلة فى التالى:
أولا: لا يجب أن يكون هناك صراع وجودي بين العسكريين والسياسين/المدنيين فى مصر، بل الهدف الأسمى أن يكون هناك تعاون مؤسسي محدد بالدستور والقانون بعد فترة طبيعية من التنافس والمناورة.
ثانيا: يجب أن يتمتع العسكريون فى مصر بدعم اجتماعي واقتصادى محدد بالدستور، فضلا عن ضرورة دعم الصورة الذهنية للجنود والقادة بين عامة الشعب.
ثالثا: لا مناص من التأكيد على أهمية وجود جيش مصري موحد ومدرب وقادر على مواجهة المخاطر الإقليمية والداخلية، والوقوف وبشدة ضد أي محاولات لزعزعة استقرار الجيش أو النيل من معنويات جنوده أو التشفي فيه وتمني هزيمته على هامش أي خلاف سياسي أو أيدولوجى!
رابعا: أول الخطوات لتحقيق ذلك التوازن فى العلاقات المدنية العسكرية فى مصر يبدأ من التأكيد على ابتعاد الجيش عن دائرة السياسة وصراعاتها ومواجهاتها ومناوراتها للانشغال بمهمته الأساسية في تأمين الجبهة الداخلية والخارجية.
خامسا: ثاني الخطوات لتحقيق ذلك التوازن سيكون أيضا من خلال التعليم المدني/العسكري المتبادل، لابد بجانب العلوم العسكرية أن يتعلم ضباط الكليات العسكرية في شبابهم العلاقات الدولية والنظم المقارنة وحقوق الانسان والديموقراطية والمجتمع المدني فضلا عن دراسة الاقتصاد وعلم الاجتماع علي يد أساتذة مدنيين بحيث تنشأ نوعا من الشراكة والفهم المتبادل لدي الطرفين مما قد يساعد علي المديين المتوسط والطويل من استعادة الثقة المفقودة.
أخيرا: لا يجب أن يشخصن الجيش علاقاته مع الشعب لا من خلال وزير أو غفير، رئيس أو مرؤوس، فالجيش هو جيش الشعب، يحمي الشرعية الشعبية وينزل على طلباتها في إطار حفظ الأمن القومى ووحدة وسلامة أراضي البلاد وحدودها المعرفة قوميا بعيدا عن المغامرين والمقامرين.
الخطر يقترب بوضوح، ومن لا يري من الغربال فهو أعمي. لا يجب أن نسمح لمصر أن تسقط.
حين أشعر بالخطر فإنني أتصرف كإنسان مدفوعا برغبات فطرية فى البقاء والحياة، ولكن لو تركت نفسي لهذا الشعور دون ضبط فإما أن الأمر سينتهى بى بهيستريا وطنية أنانية تصبح عبئا حقيقيا على مستقبل العلاقات المدنية العسكرية أو أن ينتهى بى الأمر منافقا علي بلاط السلطة بالتجارة في المشاعر الفطرية للناس لتحقيق مكاسب ضيقة. لا أريد هذا ولا ذاك، أريد مصر حرة ومستقرة ومتقدمة بشعبها وحضارتها وجيشها الموحد المدرب المحترف فى إطار دستورى واجتماعى جديد يمكننا من التنسيق الوطنى فى الجبهة الداخلية لمواجهة الأخطار المحلقة بنا، فهل لنا ذلك؟