اللاجئون والمهاجرون كأداة للابتزاز الاستراتيجى
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 22 نوفمبر 2021 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
فى سفره المعنون: «غرباء على بابنا»، الذى سطره على وقع احتدام أزمة اللاجئين والمهاجرين عام 2015، اختزل، زيجمونت بومان، عالم الاجتماع البولندى، والمحارب المخضرم إبان الحرب العالمية الثانية، تراجيديا اللاجئين والمهاجرين العالقين فى أتون الجحيم المحيط بأبواب الفردوس الأوروبى، بعبارات مفادها: «إن الحدود العسكرية ما هى إلا رد مُضلل على الضيوف غير المدعوين.. ولعل الحل الوحيد للخوف، يكمن فى استبدال العداء بواسطة الضيافة، وإظهار أشكال التضامن، التى تعترف بترابطنا كبشر».
بيد أن المشيئة الإلهية لم تمهل، بومان، حتى تكتحل عيناه بمصافحة أحلامه الواقع. فقد وافته المنية عام 2017، قبل أن تتسبب الصراعات والأزمات العالمية فى نزوح مليونى مكلوم منذ بداية العام 2021، ليتخطى العدد الإجمالى للنازحين 84 مليونا، واللاجئين ثلاثين مليونا، وفقا لتقرير أممى صدر منتصف الشهر الحالى. وها هى الملمات والنزاعات المسلحة تفتك بدول العالم الثالث، بالتزامن مع تداعيات جائحة كورونا، وأصداء التغير المناخى، الناجم عن استفحال التطلعات الصناعية، العسكرية والمدنية، للدول الكبرى. فبمنتهى القسوة، تبارى الكبار فى إيصاد أبوابهم أمام اللائذين بحماهم، فيما هرعت بعض دول العبور والمقصد، إلى بناء الحواجز والأسوار للحيلولة دون تغلغل المهاجرين واللاجئين إلى أراضيها، تاركينهم عالقين ومبعثرين فى أحشاء الغابات الباردة والأدغال الموحشة، يصارعون المجهول.
غير مبالية بكونها كارثة إنسانية يشيب من هولها الولدان، لم تتورع ثلة من الأنظمة، عن استثمار مأساة اللاجئين والمهاجرين كأداة لابتزاز الدول الغربية، بشأن قضايا خلافية شتى. فغير بعيد عن انبعاث الصراع الروسى ــ الغربى، وتنامى احتمالات تحول إقليم البلقان والبحر الأسود إلى ميدان للصدام بين الجانبين، أشعل رئيس بيلا روسيا، ألكسندر لوكاشينكو، فتيل المواجهة فى تلك البقعة الملتهبة. فانتقاما من بروكسيل لفرضها عقوبات على نظامه، جراء حملته الوحشية لقمع معارضيه، عقب انتخابات رئاسية، مشكوك فى نزاهتها، أجريت العام الماضى، عمد لوكاشينكو، الذى يناهز حكمه العقود الثلاثة، والمدعوم من الكريملين، إلى ابتزاز الأوروبيين بورقة المهاجرين واللاجئين. إذ هدد فى نهاية مايو الفائت، بفتح حدود بلاده مع ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، التى تمثل البوابة الشرقية للاتّحاد الأوروبى وحلف الناتو، أمام مهاجرين غير نظاميين، استقدمهم من أصقاع شرق أوسطية مأزومة، توطئة للزج بهم داخل أوروبا، ما لم ترفع بروكسيل عقوباتها عن بلاده.
وبينما يكابد أولئك الضحايا أهوالا إنسانية مروعة على جانبى الحدود بين بيلاروسيا وأوروبا، يوشك السحر أن ينقلب على الساحر. فلقد أدانت المفوضية الأوروبية «ابتزاز لوكاشينكو»، الذى ينطوى على تهديد فج لأمن القارة العجوز، معلنة توسيع نطاق العقوبات على مينسك بفرض حزمة خامسة تخص الاتجار بالبشر، بجريرة استخدامها غير الإنسانى للاجئين فى «هجوم هجين» على الأوروبيين. أما واشنطن، فتصدرت الدول الغربية الأعضاء بمجلس الأمن الدولى، فى الإعراب عن بالغ القلق إثر ضلوع بيلاروسيا، بإيعاز روسى، فى الاستغلال الانتهازى المنظّم والمعيب للمستضعفين من البشر، كسلاح سياسى. متوسلة زعزعة استقرار دول الاتحاد الأوروبى، وصرف الأنظار عن انتهاكات نظام مينسك المتفاقمة لحقوق الإنسان، وتحويل الانتباه عن النشاطات العسكرية المقلقة لروسيا قرب الحدود مع أوكرانيا. كما أبدت إدارة بايدن عزمها التنسيق مع بروكسيل لفرض عقوبات جديدة على مينسك.
وما كادت أوساط أوروبية وأطلسية تدق ناقوس خطر انزلاق أزمة المهاجرين واللاجئين إلى منحدر عسكرى، حتى حملت، مينسك وموسكو، الغرب مسئولية اندلاعها، على خلفية تدخلاته المتواصلة والمُغرضة فى دول الشرق الأوسط. كما اتهمتا بولندا بانتهاك المواثيق الدولية، من خلال تبنيها إجراءات، عنيفة وغير آدمية، لإبعاد اللاجئين. ولم يرعو، لوكاشينكو، عن التهديد بتعطيل خط الأنابيب، الذى ينقل الغاز الروسى إلى أوروبا مرورا ببلاده، حالة تغليظ بروكسيل عقوباتها على مينسك، التى تشاطر موسكو مخطط استثمار قضيتى أمن الطاقة والهجرة، بوصفهما كعب أخيل أوروبى.
أما تركيا، التى تعد جسر عبور للمهاجرين إلى أوروبا، فلا تزال بروكسيل تعتبرها دولة ثالثة آمنة للاجئين، إذ تستضيف زهاء أربعة ملايين لاجئ، من جنسيات متعددة. غير أن تقارير عديدة تفصح عن تنامى عداء الأتراك للأجانب، لاسيما اللاجئين والمهاجرين، فيما لا تتوانى أنقرة عن توظيفهما كوسيلة ضغط على الأوروبيين. فما إن تتصاعد حدة التوترات بين الجانبين، أو تتعرض تركيا لانتقادات أوروبية بجريرة انتهاكاتها لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو يجنح نظامها لاستجداء الدعم الغربى لسياساته المريبة حيال سوريا، حتى يهدد بإغراق الاتحاد الأوروبى بطوفان المهاجرين، الذين لا تجد أنقرة غضاضة فى استقبال المزيد منهم لاستخدامهم فى المناورة والمساومة. فلطالما اتهمت اليونان جارتها التركية بدفع المهاجرين للأراضى اليونانية، بشكل ممنهج وغير قانونى، فى انتهاك صارخ لاتفاقية عام 2016، التى أبرمتها بروكسيل مع أنقرة عقب تسلل أكثر من مليون مهاجرإلى أوروبا عام 2015. حيث تلتزم أنقرة بموجبها بكبح جماح قوافل المهاجرين واللاجئين إلى دول الاتحاد الأوروبى، مقابل ستة مليارات يورو، تضاف إليها 80 مليونا أخرى من بنك التنمية الأوروبى، توجه لبناء 65 مركزا طبيا جديدا للمهاجرين، وتزويدها بمعدات ومستلزمات صحة الطفولة والأمومة. علاوة على امتيازات سياسية أخرى، من قبيل: تسهيل ولوج الأتراك دول «اتفاقية شينجن»، وإحياء محادثات انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبى، وتطوير الاتفاق الجمركى المزمن بين الجانبين.
ومنذ العام 2011، لا تستنكف تركيا عن التموضع العسكرى غرب ليبيا لتطويق سواحل أوروبا الجنوبية، واستخدام الشواطئ الليبية الممتدة والرخوة، لابتزاز الأوروبيين بجحافل المهاجرين غير النظاميين. وفى نهاية أغسطس الماضى، حذرت أنقرة الغرب من أن يفضى إمعانه فى محاصرة نظام طالبان، إلى اندلاع موجات هجرة تطال أصداؤها السلبية غالبية بقاع العالم. ومن جانبه، هدد وزير الداخلية التركى، سليمان صويلو، الأوروبيين، بالقول: «هناك ثلاثة ملايين أفغانى فى إيران حاليا، منهم مليونان على أهبة التحرّك باتجاه أوروبا، فيما يربو عدد الذين يعبرون الحدود الأفغانية ــ الإيرانية يوميا على ألفين». ولعل هذا ما دفع القمة الأوروبية الأخيرة إلى إدانة «الابتزاز التركى»، ورفض تسييس أنقرة الممنهج لمحنة المهاجرين توخيا لمآرب استراتيجية، مطالبين إياها بالالتزام المطلق ببنود اتفاق عام 2016.
وفى أفغانستان، ناهز عدد النازحين المحليين 5.5 مليون، من إجمالى تعداد السكان البالغ 40 مليونا، بينما توقعت مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، أن يُضطر نصف مليون أفغانى إلى مغادرة بلادهم نهاية العام الحالى، مخافة الاضطهاد من قبل حكومة طالبان، والتماسا للجوء، أو غيره من سبل الهجرة الآمنة، كالحصول على حماية مؤقتة، أو ضمان وضع قانونى دائم فى الخارج. أما حكومة طالبان، فما برحت تئن من وطأة الارتدادات الموجعة للعقوبات الدولية، بالتزامن مع نفاد السيولة النقدية، وتعثر مساعيها لنيل الاعتراف الدولى بشرعية سلطتها، بما يخولها استبقاء شريان الحياة الوحيد المتمثل فى المساعدات. لذا، أبت الحكومة الجديدة إلا استغلال ملف اللاجئين والمهاجرين لحمل الغرب على رفع العقوبات التى تكبلها، والسماح لها بالوصول إلى الأصول المجمدة، وتلقى قروض من صندوق النقد الدولى، والانتفاع بتمويل البنك الدولى مشاريع تنموية قائمة. وفى أواسط الشهر الماضى، حذرت الحركة مبعوثى أمريكا وأوروبا، من أن تتمخض محاصرة حكومتها الجديدة، عن إضعافها وإشاعة الفوضى والإرهاب فى أفغانستان، بما يؤجج موجات اللاجئين والمهاجرين الباحثين عن ملاذات آمنة فى بلاد الغرب.
وبعدما استقبلت أربع وعشرون دولة فى الاتحاد الأوروبى قرابة 22 ألف أفغانى عقب الانسحاب الأمريكى الفوضوى من أفغانستان، تخطى تعداد الفارين إلى أوروبا، خلال السنوات الست المنقضية، 1.2 مليون شخص. وبناء عليه، يتخوف الأوروبيون من أن يفضى انهيار الاقتصاد الأفغانى إلى حمل آلاف المحبطين على التعلق بتلابيب الفردوس الأوروبى، بينما يتسلل بين ظهرانيهم عناصر إرهابية متطرفة. لذا، لا تدخر دول الاتحاد وسعا لتجنب تكرار سيناريو العام 2015، حينما اجتاحها طوفان هجرة عاصف، جراء الأزمة السورية، ما فجر خلافات معقدة بين الأوروبيين بشأن تقاسم أعباء الاستقبال. بدورها، طالبت ثمانى دول فى الاتحاد الأوروبى مفوضيته، بتخصيص ميزانية لتحصين حدود الاتحاد الخارجية بالأسوار والسياجات، لمنع تدفق المهاجرين. لكن المفوضية رفضت الاستجابة، داعية المجتمع الدولى إلى مساعدة أفغانستان على بناء هيكل سياسى شامل، وتطوير سياسة داخلية وخارجية أكثر رشدا.
لم يكن البعد الجغرافى عن مسرح الأحداث، ليحمى الولايات المتحدة من شظايا معارك اللاجئين والمهاجرين. فلقد قصدها آلاف الأفغان من المتعاونين مع الجيشين الأمريكى والأفغانى، ومثلهم معهم فنانون ومثقفون وحقوقيون، هربا من بطش وانتقام حكومة طالبان. ولازالت واشنطن تأبى الإفراج عن الأصول الأفغانية قبل تلقى ضمانات من الحركة باحترام حقوق الإنسان، لاسيما المرأة، مكتفية بإبداء استعدادها للتعاون مع الاتحاد الأوروبى لدعم المبادرات الإنسانية فى البلد المنكوب. أما دول الجوار الأفغانى، فقد عمدت، قبيل سقوط كابول بيد طالبان، إلى تشديد إجراءاتها الوقائية على حدودها مع أفغانستان. وفى أغسطس الماضى، أعادت باكستان، التى تؤوى 1.4 مليون لاجئ أفغانى مسجلين، وما يربو على مليونَى نازح آخرين، فتح حدودها مع أفغانستان، دون السماح بدخول لاجئين جدد، كما اقترحت على مفوضية اللاجئين إبقاء المخيمات على الجانب الأفغانى من الحدود. أما الصين، فدعت الغرب إلى رفع العقوبات عن أفغانستان، محذرة من أن يؤدى التدخل فى شئونها الداخلية إلى مضاعفة مأساتها الإنسانية.
فى أسمى معانى الإنسانية، وأبهى آيات العزة والشموخ، يتجلى النهج المصرى الأخلاقى والقانونى، فى التعاطى مع إشكالية الهجرة واللجوء. فكم هى محقة قيادة مصر السياسية، حينما تباهى البشرية جمعاء، باستضافة أرض الكنانة ما يناهز خمسة ملايين لاجئ، من جنسيات متفرقة. يعيشون حياة المصريين، بغير تمييز، ودونما رفض أو تضييق، وبمنأى عن مهاترات المعسكرات ومعاناة المخيمات. وكعادة العالمين بها، تتسامى القاهرة فوق انتهازية المتاجرة بآلام المهاجرين، وتترفع عن استغلال المآسى الإنسانية للاجئين، لأغراض التربح المالى أو الابتزاز الاستراتيجى، عبر ترويع الأوروبيين من غزو حدودهم الجنوبية بفيالق المهاجرين واللاجئين، عربا كانوا أم أفارقة.