تجار اليأس!
خالد سيد أحمد
آخر تحديث:
الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
تتزايد يوما بعد يوم رقعة المساحة الممنوحة فى وسائل إعلام عربية لأصوات تبالغ فى توجيه الانتقادات الحادة لفصائل المقاومة، وتحمّلها فاتورة الأثمان الباهظة الناتجة عن العدوان الصهيونى المتواصل منذ أكتوبر من العام الماضى، ولا تجد حرجا فى توجيه اتهامات قوية لها بتدمير مستقبل القضية الفلسطينية وإلقائها فى «غياهب المجهول».
هذه الأصوات ترى أن المقاومة سواء فى فلسطين أو لبنان لم تراع فوائض القوة والدعم السياسى والدبلوماسى والعسكرى، التى يتمتع بها المحتل الصهيونى، وأنها أصرت على رفع البندقية لمدة 75 عاما فى حروب ومواجهات «عبثية» لم تحقق شيئا على أرض الواقع، فلماذا لا تتوقف عن القتال وتعطى فرصة لتجربة «سنة سلام؟».
بالتأكيد من حق تلك الأصوات وغيرها انتقاد مواقف وقرارات وسياسات فصائل المقاومة.. فهى ليست مقدسة أو معصومة من الخطأ، بل من المنطقى والطبيعى والجائز والصحى أيضا نقد خطابها وانتقاد توجهاتها ومواقفها، لكن بشكل موضوعى غير متحيز، وبعيد عن التدليس والافتراء والتضليل، الذى يستهدف استغلال المعاناة الإنسانية غير المسبوقة التى يواجهها الفلسطينيون فى غزة، وكذلك قطاع عريض من الشعب اللبنانى فى الوقت الحالى من أجل تجريم تلك الفصائل وتحميلها وزر نتائج وتداعيات العدوان الصهيونى المتوحش والمتواصل منذ أكثر من عام.
ادعاء تلك الأصوات بأن هجوم «طوفان الأقصى» أدى إلى تدمير مستقبل القضية الفلسطينية لا يبدو صحيحا.. فالقضية قبل ذلك الهجوم كانت على وشك الاندثار تماما جراء مشاريع التطبيع التى راجت فى المنطقة، وغياب أى فرصة للتحرك نحو حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة فى إقامة دولة مستقلة وفق القرارات الدولية.
ليس هذا فقط، بل إن هناك موقفين غاية فى الأهمية، ينبغى التذكير بهما للتدليل على أن «طوفان السابع من أكتوبر» لم يكن سوى محاولة فلسطينية أخيرة لمنع اندثار قضيتهم، الأول حدث فى الثالث والعشرين من سبتمبر 2023، أى قبل الهجوم الفلسطينى بأسبوعين فقط، عندما ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تمحورت حول آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودوره فى تغيير الشرق الأوسط، ورفع خلال كلمته خريطة لم تتضمن أى ذكر لوجود دولة فلسطينية، وهو ما يعنى صراحة نهاية «حل الدولتين» الذى شددت عليه قرارات الشرعية الدولية.
أما الموقف الثانى فكان فى شهر مارس من نفس العام عندما زار وزير المالية الإسرائيلى اليمينى المتطرف، بتسلئيل سموتريش، العاصمة الفرنسية، حيث عرض خريطة لإسرائيل، تضم الأردن والأراضى الفلسطينية، وعلق قائلا: «لا يوجد شىء اسمه الشعب الفلسطينى.. هو اختراع وهمى لم يتجاوز عمره الـ100 سنة!».
حكومة متطرفة بهذا الشكل لا يمكن أبدا أن تمضى فى طريق السلام، وبالتالى لا يوجد مبرر لتحميل المقاومة الفلسطينية مسئولية إجهاض أى أمل فى الوصول إلى تسوية لهذا الصراع بإقدامها على تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر؛ لأن الطرف الآخر حرص منذ اتفاق أوسلو عام 1993 على عرقلة التسوية عبر التوسع فى الاستيطان وتهويد القدس ورفض عودة اللاجئين وعدم تطبيق القرارات الدولية فى هذا الشأن.
صحيح أن الفلسطينيين تألموا كثيرا منذ «الطوفان»، ودفعوا ثمنا باهظا فى الأرواح والممتلكات، فضلا عن أنهم يواجهون أوضاعا معيشية كارثية، كما تردد تلك «الأصوات العربية»، لكنها لم تذكر أن المحتل الصهيونى تألم أيضا فى هذه المواجهة، ويكفى أن أشد المتفائلين لم يكن ليتوقع بأن تصدر المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، لارتكابهما جرائم حرب فى غزة، منها التجويع والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة فى القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية.
يكفى كذلك ما ذكرته صحيفة «هاآرتس» بأن «إسرائيل لم تهزم أحدا ولم تحقق شيئا»، مشيرة فى تقرير لها نشرته الأسبوع الماضى إلى أنه «منذ بداية الحرب حتى الآن، سقط لنا 1772 قتيلا من المدنيين، و21,744 جريحا، و787 قتيلا من الجيش الإسرائيلى، و101 مخطوف (أحياء أو أموات)، و143,000 نازح، وأكثر من 26,240 صاروخا وقذيفة ومسيرة أطلقت على أراضينا!».
ينبغى على من ينتقدون فصائل المقاومة التزام الموضوعية والحيادية وعدم التحيز ضد من يرفع السلاح فى وجه المحتل، حتى لا يتحولوا من دون أن يدروا إلى تجار لليأس ودعاة للاستسلام.. فالشعوب لا تحصل على حقوقها وحريتها واستقلالها سوى بالمقاومة والكفاح والتضحيات.