الصين وسوريا.. تحولات استراتيجية فى مرحلة ما بعد النظام
قضايا إقليمية
آخر تحديث:
الأحد 22 ديسمبر 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
مع التحولات الجذرية التى قد تشهدها سوريا نتيجة تغييرات سياسية وأمنية غير مسبوقة، تجد الصين نفسها أمام واقع معقد يتطلب إعادة تقييم استراتيجياتها فى المنطقة. وبينما تبنى بكين سياستها الخارجية على أسس عدم التدخل واحترام سيادة الدول، إلا أن ديناميكيات الصراع السورى ونتائجه تفرض عليها تحديات أمنية واقتصادية وسياسية تتجاوز تلك المبادئ التقليدية. فى هذا السياق، تظهر تصريحات سفير الصين لدى الأمم المتحدة حول استعداد بلاده للاضطلاع بدور بناء فى استعادة الاستقرار فى سوريا، ما يعكس نية بكين للمساهمة فى إيجاد حلول مستدامة.
المشهد الجديد فى سوريا: سقوط النظام وتبعاته
بعد سقوط النظام السورى، أصبحت سوريا ساحة مفتوحة لقوى إقليمية ودولية تسعى لتعزيز نفوذها. بالنسبة للصين، كان النظام السورى شريكًا استراتيجيًا يعتمد عليه لضمان استقرار مصالحها فى الشرق الأوسط. فقد كانت سوريا، بالنسبة لبكين، شريكًا رئيسيًا فى مبادرة «الحزام والطريق» عبر موانئ طرطوس واللاذقية التى تعتبر جزءًا مهمًا من شبكة الموانئ العالمية التى ترتبط بآسيا وأوروبا. كما أن التعاون الأمنى بين البلدين كان محوريًا فى مكافحة الإرهاب والتطرف، الأمر الذى يعزز مصالح الصين فى مكافحة الأنشطة الانفصالية التى تهدد استقرار إقليم شينجيانج.
مع سيطرة المعارضة السورية على كامل الأراضى السورية، تواجه الصين تحديات أمنية واقتصادية جديدة. فى الوقت الذى تسعى فيه بكين للحفاظ على مصالحها الاقتصادية، تهدد التغيرات فى سوريا الأمن القومى الصينى، خاصة بعد عودة مقاتلى الإيجور الذين انخرطوا فى صفوف الجماعات المسلحة فى شمالى سوريا. هذا يفرض على الصين إعادة التفكير فى استراتيجياتها الخاصة بالأمن الإقليمى ودورها فى سوريا.
الإيجور وسوريا: تهديد أمنى متزايد
تشير التقارير إلى أن هناك نحو ثلاثة آلاف مقاتل إيجورى ينتمون إلى جماعات مثل «هيئة تحرير الشام» فى سوريا. هؤلاء المقاتلون يشكلون تهديدًا مباشرًا للأمن الداخلى للصين، إذ قد يساهمون فى تعزيز الأنشطة الانفصالية والإرهابية داخل شينجيانج. لذلك، وضعت الصين مكافحة الإرهاب على رأس أولوياتها فى سوريا، ما يدفعها لتعزيز تعاونها مع المعارضة السورية والدول المجاورة لها، لضمان عدم تحول الأراضى السورية إلى منصة تهديد لأمنها القومى. كما أن الصين تدعو إلى ضرورة احترام مبدأ «الحل السياسى الداخلى» فى سوريا، وهو ما يعكس موقفها الثابت فى دعم وحدة الأراضى السورية ضد الانقسامات.
تجربة الصين مع طالبان: درس للتعامل مع المعارضة السورية
قد تستفيد الصين من تجربتها مع طالبان فى أفغانستان، حيث حافظت على قنوات اتصال مفتوحة مع الحركة حتى قبل انسحاب الولايات المتحدة. هذا النهج البراغماتى ساعد الصين على ضمان عدم استهداف مصالحها الاقتصادية والأمنية فى المنطقة. وبالمثل، قد تضطر بكين إلى اعتماد سياسة مشابهة مع المعارضة السورية، حتى لو كانت فى صراع مع النظام. هذا سيكون مفيدًا بشكل خاص فى مرحلة ما بعد النظام، حيث ستكون الصين مضطرة إلى إيجاد طرق للتفاعل مع الأطراف المتعددة التى قد تكون لها أدوار فى مستقبل سوريا، بما فى ذلك جماعات المعارضة.
أدوات القوة الناعمة: إعادة الإعمار كبوابة للنفوذ
الصين تتميز بقدرتها على استخدام أدوات القوة الناعمة، مثل مشاريع البنية التحتية، لدعم نفوذها السياسى. مع دخول سوريا مرحلة إعادة الإعمار، ستسعى الصين لتوظيف شركاتها العملاقة وخبراتها التكنولوجية للمساهمة فى بناء المدن المدمرة وإعادة تأهيل الاقتصاد السورى. ويعكس هذا دور الصين كقوة اقتصادية عالمية تسعى لترسيخ وجودها فى المنطقة من خلال الاستثمار فى مشاريع ضخمة من شأنها أن تسهم فى استقرار سوريا.
ويعتبر السفير الصينى لدى الأمم المتحدة أن الصين مستعدة للقيام بدور بناء فى استعادة الاستقرار فى سوريا. هذا الدور يتضمن دعم جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسى سلمى، ما يعكس رغبة الصين فى المساهمة فى تعزيز الأمن الداخلى لسوريا، من خلال ضمان استمرار العمل فى مؤسسات الدولة السورية.
دور القوى الإقليمية: توازن العلاقات الصينية
فى ظل التنافس الإقليمى بين تركيا، إيران، تجد الصين نفسها فى موقف دقيق يتطلب بناء علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف. تركيا تدعم بعض فصائل المعارضة السورية، بينما تسعى إيران للحفاظ على نفوذها فى سوريا. من جانبها، قد تضطر الصين إلى تقديم تنازلات اقتصادية أو سياسية لضمان تعاون هذه القوى معها، خاصة فى ظل الاهتمام المشترك بمكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار.
من جهة أخرى، يسعى الجانب الصينى إلى تعزيز التعاون بين الدول ذات النفوذ فى المنطقة لضمان استقرار الوضع فى سوريا. ويؤكد أنه يجب على الدول المجاورة لسوريا، بما فى ذلك تركيا وإيران، أن تتعاون من أجل تحقيق الأمن الإقليمى وضمان تسوية سياسية شاملة.
روسيا والصين: تحولات فى الشراكة بعد سوريا
مع سقوط النظام السورى، قد تتغير الديناميكيات بين الصين وروسيا. موسكو، التى كانت حليفًا استراتيجيًا لبكين فى سوريا، قد تجد نفسها فى موقف أكثر ضعفًا فى المنطقة. بكين، التى تعتمد على روسيا كشريك رئيسى فى سوريا، قد تضطر إلى إعادة النظر فى هذا التحالف مع تطور الأوضاع. على الرغم من ذلك، ستظل الصين حريصة على الحفاظ على علاقاتها مع روسيا، خاصة فى ما يتعلق بمشاريع الأمن الإقليمى وإعادة الإعمار.
مبادرة الحزام والطريق: المخاطر والفرص
تمثل سوريا حلقة مهمة فى مبادرة «الحزام والطريق»، خاصة عبر موانئها البحرية التى تربط آسيا بأوروبا. لكن عدم الاستقرار السياسى والأمنى فى البلاد قد يهدد هذه المشاريع. الصين بحاجة إلى استراتيجية طويلة الأمد تضمن استقرار تلك الموانئ واستمرار عملياتها التجارية، وهو ما قد يتطلب دورًا سياسيًا أكثر فاعلية فى سوريا. الصين تدعو إلى الاستمرار فى عملية حوار شامل يضمن التسوية السياسية مع مراعاة المبادئ الأساسية للسيادة الوطنية السورية.
التحديات الأمنية والاقتصادية
إلى جانب المخاوف الأمنية، تواجه الصين تحديات اقتصادية فى سوريا، خاصة مع احتمال تصاعد المنافسة الدولية والإقليمية على استثمارات إعادة الإعمار. بكين بحاجة إلى تقديم حوافز مغرية، مثل القروض الميسرة، لضمان دورها الريادى فى هذه المرحلة. فى الوقت نفسه، يجب أن تعمل الصين على تعزيز قدرتها على التنسيق مع المنظمات الدولية لضمان وصول المساعدات الإنسانية وإيصال الدعم إلى الشعب السورى فى أسرع وقت.
السياسة الصينية فى سوريا المستقبلية
تجد الصين نفسها أمام مفترق طرق استراتيجى فى سوريا. بينما تسعى لحماية مصالحها الأمنية والاقتصادية، تواجه ضغوطًا من قوى إقليمية ودولية. النهج الصينى المستقبلى قد يتمحور حول تعزيز الشراكات الإقليمية، الاستثمار فى إعادة الإعمار، والمشاركة الفاعلة فى الوساطات الدولية لتسوية النزاعات. من خلال براغماتيتها السياسية وخبراتها فى التعامل مع الأزمات، تمتلك الصين الفرصة لتكون لاعبًا رئيسيًا فى إعادة بناء سوريا، وضمان استقرارها كجزء من رؤيتها الأوسع لمبادرة الحزام والطريق وتعزيز دورها كقوة عالمية مسئولة.
وارف قميحة
جريدة النهار اللبنانية