ثوابت مبارك وثورة يناير
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الجمعة 23 يناير 2015 - 8:10 ص
بتوقيت القاهرة
قبل ثورة يناير كان هناك عدد من الثوابت فى السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لمصر لم يكن من المتصور أن يتغير أى منها طالما استمر النظام السابق بقاعدته الاجتماعية وتحالفاته الإقليمية والدولية، وهى ثوابت أربع مترابطة، تغيير واحد منها سيؤدى بالضرورة إلى تغيير الثلاث الأخرى. هذه الثوابت كانت حظر الإسلام السياسى، وتبنى سياسة التحول إلى الرأسمالية، والصلح مع إسرائيل والعلاقات المسماة بالإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وربما تفاءل البعض فى السنتين اللتين تليتا ثورة يناير اعتقادا منهم أن بعض هذه الثوابت يمكن أن يتغير، مثل حظر الوجود القانونى لتنظيمات الإسلام السياسى، أو حتى تبنى سياسة التحول إلى الرأسمالية، ولكن ما جرى منذ 3 يوليو 2013 أكد بقاء بل ورسوخ الثوابت، فلا يبدو أى أفق لاحتمال الابتعاد عنها فى المستقبل القريب، ولا يبدو أن آثارها الخطيرة على إمكانيات الانتقال إلى أوضاع أكثر ديمقراطية فى مصر يمكن تلافيها.
•••
خذ مثلا حظر الوجود السياسى للإسلام السياسى. طبعا سمح النظام السابق على ثورة يناير للإخوان المسلمين بالتواجد فى المجال العام منذ أوائل الثمانينيات فى القرن الماضى، فى المجتمع المدنى فى الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية والصحافة، وفى مجلس الشعب منذ سنة 1984، ومع ذلك فهو لم يسمح لأى من تيارات الإسلام السياسى بمركز قانونى. لم يجرؤ الإخوان المسلمون على التقدم بطلب لتشكيل حزب، حيث كان قانون الأحزاب لا يسمح بإقامة حزب على أساس دينى، وأخفقت جهود فريق منشق عنهم فى الحصول على موافقة لجنة الأحزاب على إنشاء حزب الوسط، ومع أن الجماعة الإسلامية أعلنت تخليها عن العنف المسلح فى مواجهة حكومة مسلمين، إلا أنه لم يفلح قادتها فى إيجاد أى كيان قانونى يجمعهم، ولم يسمع أحد عن أى نشاط سياسى للسلفيين. ومع نجاح الإخوان المسلمين فى الفوز بخمسة مقاعد مجلس الشعب فى انتخابات خريف .
إلا أن هذا النجاح دفع النظام القائم وقتذاك إلى التضييق عليهم من جديد فى انتخابات مجلس الشعب فى خريف 2010 التى لم ينجح فيها تقريبا أى من مرشحيهم. وكان التضييق على الإخوان المسلمين يبدو فى ذلك الوقت حجر عثرة أمام أى تطور ديمقراطى فى مصر، فكيف يمكن أن يكون هناك مثل هذا التطور وأكبر فصيل سياسى فى البلاد يسمى إعلاميا وواقعيا بالجماعة المحظورة؟. وسبب الحظر كان واضحا، فقادة ذلك النظام كانوا يدركون، وفى ذاكرتهم تجربة انتخابات 2005، أنه لا أمل لهم فى الفوز بأغلبية فى انتخابات حرة ونزيهة فى مواجهة الإخوان المسلمين. كانت خشيتهم من الهزيمة وراء عودتهم إلى ممارساتهم المعهودة فى المرحلتين الثانية والثالثة من هذه الانتخابات، والتى تصلح مثلا جديرا بالدراسة فى كيفية إدارة الانتخابات على نحو يعكس إرادة الحكومة وليس اختيارات المواطنين.
•••
قل نفس الأمر عن سياسة التحول إلى الرأسمالية التى تسارعت فى ظل حكومة الدكتور أحمد نظيف وهيمنة جمال مبارك وأصدقائه من رجال الأعمال على صنع السياسة الاقتصادية. العدول عن هذه السياسة كان يقتضى تغيير القاعدة الاجتماعية للنظام، وهو ما لم يكن متصورا فى ظل وجود كبار الرأسماليين وأصدقائهم فى قيادة الحزب الحاكم ولجنة السياسات التى يرأسها من يعدونه لوراثة منصب رئيس الجمهورية. وكذلك لم يكن مطروحا لا التخلى عن معاهدة الصلح مع إسرائيل ولا العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن هناك رغبة فى مواجهة مخاطر التخلى عن هده المعاهدة من انتقام إسرائيلى شبه مؤكد، ولا التضحية بالمعونة العسكرية المقدمة من الولايات المتحدة ولا مساندتها للحكومة المصرية فى المنظمات المالية الدولية.
خطورة هذه الثوابت كانت استنادها إلى غياب الديمقراطية، فأى انفراجة ديمقراطية فى مصر كانت ستؤدى إلى تصاعد نفوذ الإخوان المسلمين، وتعاظم دور القوى الشعبية فى صنع السياسات مما يؤدى إلى انتهاج سياسة اقتصادية جديدة تتفادى مساوئ التحول السريع إلى الرأسمالية بما أحدثه من اختلالات اجتماعية فى مصر، كما أنها ستؤِدى إلى الاستجابة للرغبة الشعبية فى وقف التطبيع مع إسرائيل والاعتراض على سياسات الولايات المتحدة فى الوطن العربى وخصوصا احتلالها للعراق ووقوفها الكامل مع إسرائيل فى ترسيخ احتلالها للأراضى العربية.
•••
والأمر المحزن أنه بعد أربع سنوات على ثورة يناير مازالت هذه الثوابت قائمة، ومازالت أخطارها على أى تحول ديمقراطى حقيقى فى مصر عقبة كئود لا يبدو فى الأفق إمكان إزاحتها. انتقل الإخوان المسلمون من كونهم جماعة محظورة إلى أن اصبحوا جماعة إرهابية، ولم يعد الحظر قائما عليهم كجمعية أهلية وعلى حزبهم، ولكن امتد الحظر إلى كل الجمعيات التى يشتبه أن تكون قريبة منهم فتخضع أموالها لرقابة الدولة، كذلك فرضت الحراسة على أموال مئات من المواطنين بدعوى انتمائهم إلى الجماعة بموجب حكم محكمة غير مختصة وتجاهلا لاعتراضات مجلس الدولة، قد لا يكون الكاتب متعاطفا مع أفكار الإخوان المسلمين، ولا متجاهلا لصعوبات الدخول فى حوار بناء معهم، ولكن غياب أى أفق لاكتشاف صيغة تمكنهم من المشاركة فى الحياة السياسية فى البلاد على نحو مشروع يعنى استمرار انتهاك الحقوق الأساسية لجمهور واسع من المواطنين ليس فقط من مناصريهم ولكن كذلك من تيارات فكرية وقوى سياسية مدنية. إن الخوف من الإخوان المسلمين هو الذى أدى بحكومات ما بعد 3 يوليو إلى أن تضرب بعرض الحائط حكم القانون وحقوق تكوين الأحزاب والجمعيات والتجمع والتعبير بل والحرية الشخصية لأعداد كبيرة من المصريين ليسوا جميعهم من الإخوان المسلمين بل ووراء المماطلة فى تنظيم انتخابات نيابية تفرز مجلس نواب قادرا على ممارسة الرقابة على السلطة التنفيذية بل وربما كذلك تأجيل انتخابات المحليات إلى أجل لا يعلمه إلا الله.
كذلك لم تتغير السياسة الاقتصادية فى جوهرها عما كان متبعا فى ظل نظام مبارك. من المفهوم فى ظل الأزمة الاقتصادية التى تواجهها مصر أن يكون هناك استمرار فى الدعوة لمشاركة القطاع الخاص والشركات الأجنبية فى التنمية، ولكن لم يقترن ذلك بتدابير جادة تخفف من الهوة الواسعة فى توزيع الثروات، ولا من بداية اتباع سياسات جديدة لمكافحة الفقر والتخفيف من حدة البطالة. وعلى الرغم من عدم تبادل زيارات بين المسئولين المصريين والمسئولين الإسرئيليين، وهو ما كان مبارك أيضا يحرص على تجنبه، يدرك أنصار إسرائيل أن الحكومة الحالية فى مصر هى حليفهم فى مواجهة التنظيمات الإسلامية وفى مقدمتها حركة وحكومة حماس فى غزة إلى حد يدعو أصدقاء إسرائيل فى واشنطن، وتحديدا معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط، وهو واجهة اللوبى الصهيونى فى العاصمة الأمريكية، أن ينتقد وقف الحكومة الأمريكية لأهم بنود معونتها العسكرية لمصر.
•••
وأخيرا فعلى الرغم مما يشوب العلاقات المصرية ــ الأمريكية من خلافات بين الحين والآخر، فما زالت الامتيازات التى تحظى بها الولايات المتحدة فى مصر قائمة، مثل أولوية مرور سفنها الحربية فى قناة السويس، وعبور طائراتها المقاتلة الأجواء المصرية، كما يتطلع البلدان إلى تجديد حوارهما «الاستراتيجى» فى الشهور القادمة. وبعد تلكؤ الإدارة الأمريكية فى إرسال سفير جديد إلى مصر ينتظر السفير الأمريكى الجديد تحديد موعد خلال الأسابيع القادمة لتقديم أوراق اعتماده للرئيس المصرى.
لماذا لم تنجح ثورة يناير فى إزاحة هذه الثوابت. الإجابة ليست صعبة. طبعا لم يمارس سلطة الدولة فى مصر بعد ثورة يناير ثوار يناير، وإنما آلت السلطة بعد يناير ويونيو إلى أجهزة الدولة والتى لها قاعدتها الاجتماعية المحافظة وتخشى مخاطر التغيير، وتلك هى الثوابت التى تحرص عليها. جبل الدولة المصرية العتيدة بمؤسساتها من جيش وشرطة وقضاء لا تهزه ريح. وقد كانت ثورة يناير فى مواجهته ريحا مرت وخبت.