عندما تحدثنا فى عمود الأسبوع الماضى عن محاولات تقزيم، أو حتى إماتة، السياسة فى مجتمعات العرب، فكرا وتنظيما ونشاطًا، فإننا كنا بالطبع نشير إلى سياسة ذات مواصفات نعتبرها أساسية. لقد كنا نتكلم عن السياسة القائمة على مبادئ وممارسات الأخذ والعطاء، على التنازلات المتبادلة، على قبول الآخر والتعايش معه بتسامح، على التشارك المجتمعى العادل فى الثروات والقوة المادية والمعنوية، أى على الأسس والممارسات الديمقراطية فى تنظيم حقل السياسة التى تتلخص فى كبرى أسسها: العقلانية والحقيقة والعدالة.
ذلك أنه عندما لا توجد حياة سياسية كتلك فإن فراغا هائلا سيوجد فى المجتمع. وكما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ فإن الحياة المجتمعية هى الأخرى لا تقبل الفراغ أو الخواء. إذ عند حصول مثل ذلك الفراغ السياسى تهب أعاصير وتشتعل حرائق من مثل الطائفية العنيفة المجنونة المتزمتة فى الدين أو المذهب، أو من مثل الولاءات القبلية والعشائرية التى تعلوا على الولاء للوطن والمواطنة، أو من مثل المطالبات الانفصالية العرقية، والتى جميعها تؤدى إلى تمزيق الأوطان أو إدخالها فى حروب أهلية، أو جعلها نهبا لتدخلات الخارج والأعداء.
***
المفجع أن تلك الصورة المرعبة المأساوية هى التى نراها تحدث عبر طول وعرض الوطن العربى بظلال وألوان متفاوتة.
لكن هناك جانب آخر نحتاج لإبرازه، إذ إنه لا يتمظهر كعواصف ونيران، وإنما يكوِّن إشكالية فى نوع نظام الحكم وفى مدى كفاءته. إذ فى هذه الأجواء التى تتميز عادة بانطواء الأفكار والمبادئ والقيم الأخلاقية على نفسها، وبانزواء طبقة السياسيين الجادين غير المهرجين، تنتقل المجتمعات إلى أن تمسك بخناقها ظاهرتان جديدتان تحملان الكثير من الأخطاء.
الظاهرة الأولى هى قيام وتحكُم ثقافة اقتصاد السوق المنفلت الذى لا تحكمه إلا قيمة واحدة، هى قيمة الربح، وذلك من خلال المنافسات المجنونة المتقاتلة بلا ضوابط ومن خلال الفساد وشراء الذمم.
ومن أجل تبرير النتائج الكارثية للظاهرة الأولى، وعلى الأخص تبرير ازدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، يستعان بالظاهرة الثانية: ظاهرة الصعود المذهل لمن يسمون أنفسهم بالاختصاصيين الخبراء القادرين على ممارسة سحر الحلول ووضع الخطط التنموية الخمسية أو العشرية أو وصولا حتى إلى الثلاثينية.
لكن هؤلاء الخبراء سيعتمدون فى تقديم استشاراتهم على ثالوثهم المقدس، المتمثل فى الإحصائيات والمعادلات الرياضية واستطلاعات الرأى المعبرة عن مشاعر مؤقتة ومتقلبة. لن يكون هناك مكان للمبادئ وقيم الرحمة والتعاضد والتوازنات المجتمعية الإنسانية، إذ ستحل محلها معادلات مدارس ومؤسسات العولمة المقدسة التى تحتكم فقط إلى الإيمان المطلق بقدسية متطلبات حرية الأسواق وتعاظم الأرباح التى لا سقف لها.
لكن هؤلاء الخبراء لا يكتفون بممارسة طقوسهم فى الحجرات المظلمة وتقديم استشاراتهم إلى أجهزة حكم كسولة متثائبة، وإنما يحتلون المساحة الأكبر من حقول الإعلام السمعى والبصرى والتواصلى الجماهيرى.
لنلاحظ العدد الهائل من الخبراء الذين تستضيفهم وسائل الإعلام، بعد كل نشرة أخبار، ليقدموا تنبؤاتهم وتخميناتهم وادعاءاتهم وتوجيهاتهم فى حقول السياسة والمال والاقتصاد والأمن والإرهاب والبيئة. حتى ما يجول فى خواطر الناس ونفوسهم أصبح موضوعا لهؤلاء الخبراء.
لكن ما لا يمكن إغفاله هو الخليط العجيب فى تركيبة ما يقدمه هؤلاء، إذ يختلط العلم بالظن والتخمين، الاعتقاد بالمعرفة، والعواطف بالعقلانية. ويشعر الإنسان أن التواضع قد اختفى فى عالمنا.
***
عندما تغيب الأفكار السياسية الكبرى وينزوى السياسيون الملتزمون بتلك الأفكار، ويقبع المفكرون الإنسانيون فى زوايا المؤتمرات ليتحدثوا مع أنفسهم، وتصبح قيمة العدالة كلمة أيديولوجية يُستهزأ بها، فإن فراغا سياسيا هائلا يحدث ليملأه الخبراء الذين كما قلنا ونكرر، لا يحتكمون إلا إلى ثالوث المعادلات الرياضية والإحصائيات واستطلاعات الرأى، الثالوث الذى لا يهمه أن يعيش الإنسان فى عالم لا رحمة فيه، ولاعدل، ولا إنصاف، ولا تضامن بشرى.
فى هذه الأجواء لا يقدم الخبراء التحاليل والبدائل فقط، وإنما يُسمح لهم أيضا باتخاذ القرار. لم لا، إذا كانت السياسة، فى المجتمع وفى السلطة، قد تخلت عن ممارسة أهم أسباب وجودها وهى اتخاذ القرار وتحمل مسئولياته.
فى المحصلة، الذى يدفع الثمن هو الإنسان المواطن. فإذا رفض وثار من أجل حريته وكرامته وعدالة عيشه قُمع أو سُجن أو قُتل أو دمر مسكنه أو شردت عائلته فى المنافى.
وإذا استكان وأصبح لا مباليا انبرى المثقفون والمفكرون بلومه وتقريعه واستنهاضه وتحميله مسئولية الكوارث.
إنها حلقة مفرغة تتأرجح بين الثورات والحراكات المهزومة وبين الهدوء والتثاؤب الممل. إنه ثمن تغييب وغياب الممارسة السياسية الحقيقية المعقولة الصادقة السلمية فى وطن العرب.