أصحاب النظارات البيضاء
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 23 أبريل 2017 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
هى السبعينيات أو منتصفها والدبابات تغزو شارع الحمراء فى بيروت عاصمة الفن والثقافة وفيروز.. وهم أو هن مجموعة من الطلبة البحرينيين الملتحقين بالجامعة الأمريكية. فى معظمهم متفوقون بل أوائل البحرين ــ تلك الجزيرة الصغيرة الجالسة فى بحر الخليج.. عاشوا كل صخب الحياة الطلابية فى لبنان. المبتعثون منهم أو منهن يتسابقون إلى يم يم يلتهمون السندوتشات الشهية ومن بعدها إلى غرفهم فى سكنات الطلاب والطالبات بداخل الجامعة الأمريكية فى بيروت.
بعضهم ينهى أيامه فى مقر اتحادهم أى اتحاد طلبة البحرين فى لبنان وهو كان المدرسة الأولى لكثيرين منهم.. ندوات وحوارات ونقاشات وأحيانا خلافات فى الرأى فى معظمها بين الطرفين الأكثر انتشارا فكريا بين الطلاب البحرينيين؛ الجبهة الشعبية (ماركسيين أو ماركسيين جدد كما كانوا يحبون أن يعرفوا) وآخرون من جبهة التحرير (الحزب الشيوعى البحريني) وما بينهم من خليط من البعث أو القوميين العرب.. لم يكونوا وخاصة الفتيات منهن على معرفة بمختلف الأفكار السياسية. فمعظمهن من المتفوقات بل الأوائل على الثانوية العامة فى ذاك العام والحاصلات على بعثات إلى تلك الجامعة بل ذاك الصرح الذى يطمح له كل بحرينى وبحرينية.. أن يشار لهم أو لهن بأنهم طلاب بالجامعة الأمريكية فى بيروت التى خرجت عددا من البحرينيين المتميزين أطباء ومهندسين واقتصاديين وآخرين.
***
السبعينيات فى بيروت يعنى «ميس الريم» فى البيكادلى لمن استطاع لها سبيلا أو بعد أن يجمع المصروف ويدخروا بعضا من الليرات التى أرسلها الأهل لمشاهدة مسرحية فيروز.. فحضور مسرحية لفيروز كان حلم الكثيرين منهم. وشارع الحمراء يعج بالحياة بين مقهى الومبى والمودكا، والأهم ذاك هو الهورس شو حيث يمر الطلاب البحرينيون الجدد بالقرب منه يسرقون النظر لمعرفة من الجالس ليحتسى القهوة أو غيرها من المشروبات فى جو من النقاشات.. «هنا تجلس غادة السمان» يقول ذاك الطالب البحرينى المخضرم للفتاة الصغيرة الساذجة التى لم تفك جدايلها بعد، فتقف مبهورة تسرق النظرات الخجولة من بعيد بكثير من الفرح المخبأ، فقد قرأت لتلك الكاتبة الكثير وأعجبت بها ولم تكن تتوقع أن تكون على بعد خطوات منها فى مقهى بيروتى يضج بالصخب المعتق بالثقافة والسياسة معا..
فيما هى مشدوهة بمشهد غادة السمان وأخريات لا تعرفهن تتعرف على وجه آخر طالما رأته فى الجرائد والمجلات وعلى أغلفة دواوينه.. هنا يبقى أدونيس يدخل فى جولات من النقاشات المستمرة والساخنة بين فاصلة وأخرى.. تسترق السمع خجلة من نفسها أن تضبط متلبسة بفعل التنصت على الآخرين، ولكنها هنا تقف تشعر وكأنها عند حافة الغيمة تلامس بعض نجوم السماء ويعود صوت زميلها المخضرم ليعيدها إلى الأرض ثانية..
لم يكن لكل هؤلاء من أصحاب النظارات البيضاء كما لقبوا لاحقا، الجرأة على الجلوس فى ذاك المقهى فهو كان لصفوة الكتاب والصحفيين والسياسيين وبعض بعضهم.. فمن يكون هو أو هى القادمون من تلك الجزيرة الصغيرة الراكدة فى وسط الخليج ليجالسوا تلك الأسماء اللامعة فى سماء الأدب والسياسة والفن..
***
القادمون الجدد والمخضرمون لم يلبثوا وأن وجدوا أنفسهم فى متاهات بدايات حرب وهم الذين لم يعرفوا سوى السباحة فوق الموجة النائمة عند أطراف جزيرتهم الهادئة.. سريعا طلب منهم المغادرة والعودة إلى أرض الوطن فكان أن أصبحوا بعد أشهر معدودة لا يملكون سوى التسكع فى سوق المنامة وباب البحرين الشهير يمررون اللحظات البطيئة انتظارا للعودة إلى لبنان أرض الأحلام متوقعين بكثير من البراءة أن هذه الحرب لن تدوم طويلا.
تمر الأشهر وتزداد حيرتهم وتسكعهم فيكتب أحدهم مقالته الشهيرة أصحاب النظارات البيضاء، فيتحولوا فجأة إلى مادة صحفية دسمة ونقاشات عن الحاجة إلى نقلهم سريعا إلى جامعة أخرى فى مدينة أخرى وبلد لا يعرفون.. أصحاب النظارات البيضاء هم الآن كسا البياض كثيرا من شعرهم يتأملون عائدين لتلك الأيام يتناولون النكات حول تجاربهم الأولى وكلها أو أهمها ولد هنا فى حضن هذه المدينة التى تبقى تقاوم العبث العربى حتى بعد أن أصبحت حربهم مجرد تفصيل ممل أمام مجازر الحروب الممتدة على اتساع خارطة الأوطان.