القاهرة ثقافة وناس
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 23 أبريل 2024 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
عندما يقول القائل (مصر منورة بأهلها) فتأكد أن المعنى صحيح، ورغم أن الأيام صعبة وحالة الناس ضنك والكل يسب ويلعن بسبب ضيق ذات اليد وتفشى الغلاء فإن بعض الأحداث تستحق أن تنظر فيها وتطمئن إلى أن هذا البلد محظوظ بشبابه الذى لا يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويعلن عن نفسه.
وشهد الأسبوع الماضى وحده انعقاد مهرجانين ثقافيين كبيرين أكدا أن مصر بخير وأن شبابها الراغب فى تلقى المعرفة لا يزال موجودا يقاوم بعناد وإصرار كل صور المعاناة.
المهرجان الأول عُقد فى مركز التحرير الثقافى التابع للجامعة الأمريكية وهى دورة أولى ناجحة بكل المقاييس، فى حين عقد الثانى وهو ملتقى القاهرة الأدبى فى قبة الغورى بحى الأزهر وهى الدورة السادسة لمهرجان بدأ قويا وتوقف تحت تأثير جائحة الكورونا وعاد قويا كما بدأ فى العام 2015.
انتقد البعض إقامة المهرجانين فى توقيت واحد، بزعم أنهما يتنافسان على جمهور واحد كما سخر البعض الآخر من التناقض الطبقى بين المكانين ومع ذلك فإنهما نجحا تماما فى إبراز الوجه التعددى لثقافة القاهرة، كما أكدا التنوع فى خيارات الجمهور.
والأهم أنهما أشارا بقوة إلى أهمية المبادرات المستقلة وعمق تأثيرها فى المشهد الذى كان مرهونا بقوة المؤسسات الرسمية وفاعليتها، فقد تولت دار صفصافة إقامة ملتقى القاهرة الأدبى، فى حين تعاونت مكتبة تنمية مع الجامعة الأمريكية فى تنظيم مهرجان التحرير الثقافى وواصلت المكتبة العمل على زيادة فرص التواصل بين القراء والمؤلفين سواء كانوا من مصر أو من خارجها.
نحن نعرف أن السنوات الأخيرة شهدت انحسارا فى فرص التثقيف بعد تراجع المشروعات القومية للقراءة التى كانت تحظى فى السابق بدعم كبير من الدولة تحت مسمى (القراءة للجميع ) أو (مكتبة الأسرة) وكلها اختفت لا حس ولا خبر رغم أن هناك أجيالا كاملة استفادت منها وتغير وعيها بسبب الكتب التى كانت تصدر عنها بسعر التكلفة وتصل بسهولة إلى كل مكان فى مصر.
وبما أننا قد احتفلنا، أمس، باليوم العالمى للكتاب فلا مانع من التذكير بأن هناك بعض الكتب تخطت أسعارها حاليا حاجز الألف جنيه وأن الكتب التى تحظى ببعض الدعم لا تجد فرص توزيع عادلة تضمن وصولها للناس وربما لهذا السبب عليك أن تشعر بالدهشة وأنت ترى مئات الشباب يتوافدون يوميا على ندوات المهرجانين بأمل واحد هو الحصول على توقيع كاتب من بين الكتاب الذين وجهت لهم دعوى المشاركة مثل صنع الله إبراهيم وإبراهيم نصر الله وأشرف العشماوى وحمور زيادة وضحى عاصى وعمر طاهر.
شعرت بسعادة غامرة وأنا أرى الكثير من الكتب التى صدرت لمؤلفين جدد يكتبون فى موضوعات جادة تخطت أعداد طبعاتها خمس أو ست طبعات وهى ظاهرة إيجابية جدا، وأكثر إيجابية أن يحدث ذلك فى ظل الحديث عن مخاطر الطابع الاستهلاكى لكتابات البيست سيلر التى تتعرض للإدانة والهجوم طوال الوقت رغم أنها قد تكون مقدمة لطريق طويل ينبغى خوضه لكى يصل صاحبه للمسار الذى يرتضيه، فالقارئ هو من يصحح مساره بنفسه ولا ينبغى لأحد أن يرشده، فقد انتهى إلى الأبد عصر التوجيه الأدبى وثقافة الإرشاد القومى.
نجحت المهرجانات الأخيرة وقبلها معرض القاهرة للكتاب فى تأكيد الرأسمال الرمزى للقاهرة التى لا تزال تمتلك سحرا لا يمكن مقاومته والقارئ هو المصدر الرئيس لهذا السحر، كما أنه العنصر الغائب عن بعض العواصم التى تسعى بجدية لإظهار حضورها فى الجانب الثقافى وتزيد فرص الاستثمار فيه، إما بمزيد من الجوائز أو الفعاليات الثقافية الناشئة وهذا حقها تماما ولا يجوز لومها أو السخرية منها.
وترتبط تلك المساعى بجهد هائل لبناء رؤى وسياسات ثقافية نعجز عن تطبيقها فى مصر، لأن مؤسساتنا الثقافية تعمل من دون رؤية أو سياسات ثقافية محددة لا تتأثر بخروج الوزير من الحكومة، فالمفترض فى السياسات أن تعبر عن رؤية الدولة وليس عن رؤية الوزير المسئول وشخصيا شاركت فى مئات الاجتماعات والخطط الحكومية الساعية لبناء سياسة ثقافية طوال 15 عاما ولم تظهر آثارها بعد.
لا أحد يجادل فى أن وزارة الثقافة تقاعست عن أداء مسئوليات كثيرة خلال السنوات الأخيرة، كما لم تعد متحمسة لإقامة مهرجانات أدبية كانت مصر رائدة فى ابتكارها ولكن تم استنساخها فى بلدان أخرى.
ونحمد الله أن جهود المجتمع المدنى تنهض لتعوض هذا التقاعس، كما نشكر الوزارة لأنها أتاحت بعض مواقعها لاستضافة بعض الفعاليات وهذا جهد محمود ينبغى الإشادة به وتعزيزه.
ومما هو جدير بالنظر أن الجامعة الأمريكية فى القاهرة أطلقت مهرجانها الثقافى الأول فى حين لم تفكر جامعة القاهرة فى إطلاق مبادرة مماثلة طوال تاريخها ونأمل أن تفعل ذلك فى المستقبل.
ولا يمكن التوقف أمام المهرجانين دون الإشارة إلى حرصهما على رفع درجة تمثيل الثقافة الفلسطينية داخل الفعاليات ودعوة أسماء تمثل أجيالا وقطاعات جغرافية مختلفة، وتخطى ملتقى القاهرة الأدبى أكثر من حاجز بعد إقناع الروائى الكبير صنع الله إبراهيم (87 عاما) فى الخروج من عزلته والمشاركة فى ندوة حول روايته التى كتبها عن الرئيس جمال عبد الناصر وكعادته عبر بدقة وصراحة عن تجربته الملهمة.
وأتصور أن القائمين على المهرجانين بحاجة خلال الدورات القادمة للانفتاح بدرجة أكبر على أسماء جديدة تظهر تنوع الثقافة المصرية والعربية لكى يتواصل النجاح وتتحقق الأهداف وتتجدد الدماء.