من وحي انطلاق مبادرة «سينماء» ضمن نشاطات هيئة الأفلام في السعودية (2)

إبراهيم العريس
إبراهيم العريس

آخر تحديث: الجمعة 23 مايو 2025 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

ما معنى النقد السينمائى؟ وما حاجتنا إلى هذا النقد؟ وكيف نمارسه؟

كنا فى مثل هذا اليوم قبل أسبوع قد تناولنا المسألة النقدية السينمائية من خلال احتفال هيئة الأفلام السعودية بانطلاقة فعاليات مبادرة «سينماء» التى تقوم على اهتمام بالغ الجدة بمجال النقد السينمائى ولا سيما من خلال مؤتمرين بالغى الأهمية عقدا فى الرياض كما فى عدد من المدن السعودية لهذه الغاية وشارك فيهما عدد كبير من المهتمين بالسينما والكتابة عن السينما الآتين من البلدان العربية والعالم، ثم من خلال صدور عدد لا بأس به من كتب جديدة من نوعها حول السينما وفكرها وتاريخها. هذا الاهتمام الذى قدمناه وأشرنا الى جدة إنجازاته قبل أسبوع، يتكامل هنا بالنسبة إلينا مع طرح للمسألة النقدية فى مجال تلك السينما كما كنا وعدنا فى ختام المقال المذكور.

وها نحن نفعل هذا فى السطور التالية..

طبعا ليس فى المجال متسع هنا للإسهاب الأكاديمى المعهود حول النقد ومعناه وإشاراته واستراتيجياته وأهدافه وجمهوره المستهدف و.. موضوعه قبل أى شىء آخر. ولكن يمكن الإشارة الى ذلك سلبيا للقول: النقد الحقيقى والعلمى، هو تماما غير ما نجده فى كل ذلك «التراث» «النقدى» الذى يمكننا تصفحه فى المطبوعات المختلفة وفى الكتب وصفحات الصحف والندوات والمهرجانات. وليعذرنا كل أولئك الأصدقاء والزملاء الذين أمضوا عقودا من حياتهم معتقدين أن ما يكتبونه هو «عين النقدس. وليعذرنا كل أولئك القراء الطيبون الذين اعتقدوا وما زالوا، أن كل ما يقرأونه، ولا سيما على صفحات الصحف والمجلات وحتى المواقع غير المتخصصة، نقد سينمائى. أولئك يكتبون وهؤلاء يقرأون بالتأكيد سطورا وصفحات وربما مطولات عن الأفلام، وتطالعهم آراء وتعليقات حول ما يستجدّ فى عالم السينما. وهو كلام يبدو عادة جميلا وأنيقا ومحبذا وحاثا على حب السينما والإمعان فى حبها. كلام عن المخرجين وأحيانا عن الممثلين والمنتجين، وبشكل أكثر ندرة، عن المصورين وكتاب السيناريو وما شابه ذلك. ولا سيما لمناسبة عرض فيلم ما أو إقامة عروض معينة أو حضور مهرجان عالمى. وربما بشكل منتظم.

وقد يحدث لهؤلاء أن وفقوا أن يجمعوا ما كتبوه فى ملفات أو حتى فى كتب يعطونها عناوين فخمة جامعة مانعة تشير الى تبحّر فى المعرفة وتعمق فى الفهم وفى العلاقة مع الفن السابع. لكننا فى الحقيقة، إن قارنّا بين فخامة العنوان وفصاحته، وبين صفحات الكتاب نفسه، سنرى الفجوة شاسعة. وكل هذا وكتابنا الرفاق يعتقدون أنهم إنما يكتبون نقدا. طبعا لا تحاولوا أن تتوقعوا أسماء صريحة هنا. فليس هذا هو الهدف. ومن المؤكد ان ليس فى الأمر إهانة لأحد. فمثلا إن قال قائل عن فلان أنه لا يتقن اللغة الصينية، لن يكون معنى هذا أنه يحاول أن يشتمه أو يقللة من شأنه. كل ما فى الأمر أنه يوصّف وضعا. فلا يعيب المرء ألا يتقن الصينية إلا حين يكون معتقدا إتقانها دون أن يفعل. وهنا تكمن المشكلة.

المشكلة التى قد يكون من الظلم اعتبارها هنا مشكلة أخلاقية. فهى فقط مشكلة نابعة من سوء تفاهم دائم يطلع أساسا من كون الكتابة عن السينما ولا سيما فى المشرق العربى أُعطيت منذ البداية اسم «نقد» فى وقت لم يكن أحد عندنا قد حدد بعد ماهية النقد. فكما أن السينما فن جديد دخل الحياة الإجتماعية العربية فى أزمان حديثة نسبيا، وأحدث كثيرا من تاريخ ظهور أى فن آخر، وربما أيضا بوصف السينما، أول الأمر على الأقل، مجرد إمتداد تقنى للمسرح والرواية، كان من الطبيعى أن تكون الكتابة عنها أول الأمر مجرد امتداد للكتابة عن المسرح والأدب. وهكذا رأينا الصحفيين، ولا سيما منهم «الميالون الى الكتابة عن المسرح والفنون الاجتماعية» يكوّنون جمهرة كتّاب السينما على صفحات الصحف وعلى موجات الأثير الإذاعى، (قبل أن تتضاءل أهمية المذياع فى الحياة الإجتماعية)، فينصرفون الى التعليق على أفلام سينمائية محبذين نجاحاتها الجماهيرية. ولن نظلم هذا النوع من الكتابة إن قلنا أنه كان دائما مجرد متابعة انطباعية تحاول أن تصف ما يحدث فى الفيلم لتخلص الى أن تمثيل البطلة فلانة كان مدهشا، وأداء البطل يذكر بكلارك جيبل. مع التعريج فى بعض الأحيان على جمال الصورة أو رداءة الصوت أو الضجيج الذى يحدثه المتفرجون فى الصالة، أو على «قزقزة اللب» وما شابه ذلك... ونعرف أن هذه الكتابة وسمت أولى المقالات السينمائية لسنوات طويلة قبل أن تتطور نظرة الكتّاب الى الأفلام، وربما أيضا بتطوّر الأفلام نفسها. أما إذا كان الكاتب توّاقا لإعطاء كتاباته طابعا أكثر ثقافية أو جدية، فكان يتوقف مثلا عند «هوليوود من دون رتوش» أو «هوليوود من ثقب الباب» أو «الظلم الذى يحيق بفريد الأطرش لاضطراره، إجتماعيا ولعدم تخييب أمل متفرجاته، الى عدم الزواج لا فى الأفلام ولا فى الحياة العامة»…. أو ما يشبه ذلك.

طبعا قد يكون فى هذا شىء من الكاريكاتورية. وقد يكون ثمة كتاب أوغلوا فى شىء من الجدية فى التعاطى مع النظرة الى السينما، على خطى شيخنا يحيى حقى فى مصر، أو الرائد فريد جبر فى لبنان أو صلاح دهنى فى سوريا، أو يوسف العانى فى العراق أو حتى الأديب الضرير عبد الرزاق البصير فى الكويت والذى كان ضريرا رغم اسمه! وكاتبا عن السينما رغم عماه – وللمناسبة عرف كيف يكتب فى الوقت نفسه مقالات جيدة عن أفلام كان يجلس الى جانبه فى الصالات من يصفها له حتى تكتمل كتاباته..

كانوا روادا جيدين ولا سيما مع ترابطهم بما كانت تتطور اليه الأمور فى مصر على يد عدد من الرواد ممن كانوا يعملون بصمت فى الإسكندرية أو يتحلقون من حول «ندوة الفيلم المختار» فى القاهرة أو حتى من حول المركز الكاثوليكى الذى ابتكر التصنيف والنقد الأخلاقيين فى المحروسة من حول فريد المزاوى وبات مرجعا فى هذا المجال.

ولكن هل كان كل ذلك نقدا؟

على الرغم من الاستعداد لتوجيه الف تحية فى اليوم الى هؤلاء الرواد، وعلى المقلب الآخر الى رواد أكثر تأدلجا واحتفاء بمضمون الأفلام انطلاقا من مواقع نضالية سياسية. فإن هذا كله لم يكن، أو أننى أنا لن أجد أية مبررات لاعتباره، نقدا. على الأقل بالمعنى الذى أفهمه للنقد.

بهذا المعنى، قد أقول انه فى الوقت الذى كان فيه نقاد السينما ومنظروها وبخاصة فى باريس وروما، والى حد ما فى موسكو ولندن والشاطئ الشرقى الأمريكى يمعنون بحثا عن تأسيس تيارات نقدية نظرية إجتماعية للنقد السينمائى، كان التطور عندنا بطيئا. و«عندنا» هذه قد تنحصر، خاصة فى الحيزين المصرى والمشرقى. علما بأن الجيل التالى من النقاد، فى القاهرة وبيروت ودمشق، كان مختلطا ببعضه البعض أشخاصا وأفكارا واستراتيجيات. أو على الأقل ينطبق هذا الكلام على نحو دزينة أو دزينتين من أولئك الذين بدأوا الكتابة السينمائية فى أوقات واحدة تقريبا، فى وقت كانت فيه صحف ومجلات أكثر جدية ـــ ولكن للأسف أكثر استبدادا إيديولوجيا أيضا ــ تخلى حيزا متزايدا فيها لما كان قد بدأ يسمى «نقدا سينمائيا» وهذه المرة أتى الكتّاب من نوادى السينما والتجمعات اليسارية أو المبادرات الفردية العصامية. وأحيانا من السينما نفسها حيث راح يخوض غمار الكتابة نقاد أرادوا أن يتمرنوا ويزجوا الوقت ريثما تتاح لهم الفرصة للتحول الى مخرجين بين مهن سينمائية أخرى.

صحيح أن ثمة نقادا فى مصر درسوا النقد فى المعاهد فى ذلك الحين وتحديدا فى معهد السينما، ولكن فى المقابل لم يدرس معظم المشارقة النقد فى أى مكان على الإطلاق. أتوا من الصحافة الفنية، من الفهلوة، من الرغبة فى الكتابة عن أى شىء والسلام. وأحيانا من شىء من العصامية. ومهما يكن فلا بد من الإشارة الى ان النقد بال معنى هنا، والذى درسته من ناحيتى فى «معهد الفيلم البريطانى» فى لندن بداية سبعينات القرن العشرين فى ما كان يسمى «الجامعة الحرة، محاضرات جون بلايرز»، يفهم الفيلم كفاعلية إجتماعية تعبر عن نظرة فنان سينمائى الى مجتمعه، لا عن نظرة جماعية ولا عن واقع خارجى محدد. النقد بالنسبة الى هذا الفهم هو نوع من «قول على قول» أى تماما كما ان المخرج – المؤلف السينمائى فى حالتنا هذا بالمعنى الذى أعاد أقطاب الموجة الجديدة الفرنسية، ولا سيما فرانسوا تروفو وجاك ريفيت... إختراعه تحت مسمّى «سياسة المؤلف»، يرسم فى فيلمه خطوط نظرته الى الحياه مستخدما الصورة والصوت والتوليف الحر والتشكيل الجمالى وسيكولوجيا الأفراد والجماعات حتى أحيانا، ناهيك بتبحّره فى تاريخ الموسيقى والأدب والفن التشكيلى. ومستعينا بحركات الأجساد وتعابير الوجوه بشكل لا يجعل السينما مجرد فن سابع كما نظّر الإيطالى/الفرنسى ريتشيوتو كانودو، بل جامعا للفنون ينطلق منها ويتجاوزها، كذلك فإن النقد – بدون معقوفتين هذه المرة – يكتب عن الفيلم أو عن متن أعمال مخرج ما، أو عن تيار جامع، بشكل يعيد خلق هذه الأعمال كتابةً. فما الذى يفترضه هذا؟

 ببساطة يفترض أن النقد هو إبداع على الإبداع وليس وصفا له أو رأيا فيه أو مجرد إنطباع عنه. باختصار شديد: النقد إبداع آخر. لكنه إبداع من نوع شديد الخصوصية يفترض بممارسه أن يكون ملما بكل الأصناف الفنية والفكرية التى تتجمع تحت اسم فيلم سينمائى أو تيار ما، أو متن مبدع معين. ومن هنا لئن كانت السينما فنا وصناعة وتجارة فى آن معا، فإن النقد فن وعلم فى الوقت نفسه، هذا إن تجاوزنا مسألة اللغة الأدبية التى يُفترض أن تكون العمود الفقرى للكتابة، لأن هذا الأمر بالذات، تحصيل حاصل. ولعل فى الإمكان هنا الإشارة التى دائما ما تحتاج إلى وقفات طويلة عريضة إلى أن نوعية الفن السينمائى كعمل ابداعى و«علمى» فى الآن عينه، ولكون الفعل السينمائى صورة وصوتا وموسيقى وشعرا وتحليلا نفسيا وإدراكا للغة الجسد ووظائف الأعضاء وتاريخ الفنون والتاريخ السياسى والاقتصادى وبخاصة العمران والفن التشكيلى ــ بالنظر إلى أن هذا كله يشكل فى نهاية الأمر جزءا من الصورة السينمائية تفوق فى اهميتها الحوار والحبكة والعلاقات...، لا بد من التساؤل عما إذا لم يكن الناقد ــ وبدون معقوفتين هذه المرة ــ فى حاجة لأن يكون ملما بكل ذلك قبل أن يسمى نفسه ناقدا ويزعم أنه قادر على ولوج الفيلم أى فيلم أصلا...؟

فإذا كان ما سبق متفقا عليه، لا بد من التساؤل: أين هذا مما يكتب فى الصحافة المشرقية من نصوص حول السينما. ولكن مع نظرة الى التطور اللافت الذى عرفته كتابة النقد السينمائى فى المغرب العربى خلال ربع القرن الأخير حيث إن حركة نوادى السينما التى انتشرت كنوع من فاعلية سياسية/نضالية/ جمالية منذ بدايات السبعينيات، ناهيك بالقرب الجغرافى والثقافى مع ما كان يحدث فى فرنسا على هذا الصعيد، خلقا نقدا سينمائيا تحليليا كان من شأنه أن يكون بالغ الأهمية لولا مشكلة اللغة العربية والتفكير بالفرنسية والترجمة الذهنية منها الى لغتنا العربية الجميلة مع وهن فى ابتكار المصطلحات. فالحقيقة – وهذا على هامش هذا الكلام هنا – يدرك من يعرف الفرنسية ويقرأ دراسات نقدية تحليلية مغربية، بشكل دقيق ما يريد أولئك الرفاق قوله وهو عادة كلام جميل وتحليل بالغ الحداثة، غير أن مشكلته تكمن فى أن الوهن اللغوى لن يوصل منه شيئا الى قارئ العربية. أما قاريء الفرنسية فليس فى حاجة إليه!

ولنعد الى سؤالنا الأساسى: ترى هل ثمة شيء من هذا فى المتن النقدى «المشرقى»؟ أحيانا نعم لدى البعض... لكنه قليل جدا. أما الباقى فهو كتابات صحفية تبدو ممتازة أحيانا. وكان من روادها كثر فى عدد من البلدان المشرقية حيث ابتكرت الصحافة السينمائية فى بيروت والقاهرة خصوصا لونا مميزا من الصحافة السينمائية يقوم على الحوارات «الحدثية» و«المعلوماتية» مع المبدعين وعلى إستعراض أفلامهم، ولكن دائما من منطلق لا يأبه كثيرا بالتحليل الإجتماعى وأقل من ذلك بربط الأعمال بالمتن الإنتاجى لأصحابها. والحقيقة ان ذلك لا يعود الى العجز عن خوض «التحليل السينمائى» بل الى نوعية الميدان العملى الذى يخاض. ولكن أيضا الى نوعية الإرتباطات والمصالح الترويجية التى كانت ضمن إستراتيجيات الصحف نفسها.

والحقيقة أن هذا ما أورثه رواد هذا النوع، الى نحو نصف دزينة وأكثر من صحافيين/نقاد يملأون اليوم الساحة النقدية. لكن المشكلة هى أن الجانب الترويجى تحوّل الى فعل طاغ لدى الورثة، بحيث أن كثيرا من المقالات التى نقرأها بأقلامهم تبدو ترويجية حتى لدى أكثرهم موهبة. ولا سيما منذ انتشرت المهرجانات السينمائية التى راحت «تستأجر» خدمات «النقاد» محولة كتاباتهم الى سلع ذات ثمن.

طبعا لن نغوص أكثر فى هذا السياق إذ لا بد من العودة فى الختام، الى الموضوع الأساسى لنقول أن الحركة «النقدية» عندنا تتسم اليوم بنوعين من التوجّه: إما النوع الترويجى/المهرجانى، وإما النوع الأيديولوجى الموروث من اهتمامات سينمائية تكونت فى بلدان أوروبا الإشتراكية – اقرأ: الستالينية! – (كما كانت الحال الغالبة فى الكتابات السورية والعراقية بشكل عام حيث لم يتوقف «النقاد» ــ وما أكثرهم مع معقوفتين طبعا ــ عن البحث فى الفيلم عن الرسالة والمعنى والبعد الإجتماعى مع غلبة إهمال الجماليات والإستراتيجيات الإبداعية). غير أن هذا كله لا يمنع كثرة من هذه النصوص من أن تتّسم بمتعة القراءة وحب السينما والحث على الاهتمام بها. كل هذا صحيح وجميل وصحّى فى وقت تعانى فيه السينما ما تعانى. ولكن كل هذه النوايا الطيبة لم تصنع بعد نقدا حقيقيا ولا نقادا متعمقين. ولكن هل ثمة أصلا من هو فى حاجة الى هؤلاء وإلى ذاك؟

لست أدرى. ومع ذلك فإن هذا يحيلنا الى المسألة الأخرى: مسألة التلقى التى لا مجال للخوض فيها هنا. فقط أود ككاتب لهذه السطور، أن أعيد أمام أسماعكم حكايتى البسيطة عن ذاك المسئول فى مجلة جديدة الذى استدعى ناقدا معروفا عارضا عليه أن يكتب فى مجلته مقابل مبلغ شهرى لا بأس به، وحين سأله الناقد: ماذا تريد منى أن أكتب؟ أجابه: كل شىء إلا النقد فهذا لا يقرؤه أحد!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved