الذكاء الاصطناعي كقضية وجودية عربية

قضايا تكنولوجية
قضايا تكنولوجية

آخر تحديث: الجمعة 23 مايو 2025 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

 تعيد خوارزميات الذكاء الاصطناعى تشكيل ملامح الحضارة الإنسانية، ما بين اقتصاد المعرفة إلى حروب البيانات، وهو ما يفرض على العالم العربى مواجهة تلك المخاطر، فإما أن يشارك فى صوغ هذا المستقبل، أو يصبح مجرد مستهلك لتفاصيله، وواقعا تحت مخاطره وسيطرته.

تتضح معالم الفجوة والمخاطر، حينما نجد الصين والولايات المتحدة تنفقان مئات المليارات على تطوير نماذج مثل ChatGPT أو Baidu’s ERNIE، فى حين أن الاستثمارات العربية لا تزال تقاس بملايين محدودة، على الرغم من امتلاك العرب موارد بشرية ومالية قادرة على صنع معادلة مختلفة. وهو الأمر الذى يقتضى منا التسريع فى اقتناص الفرص و مراعاة التحديات التى يطرحها الذكاء الاصطناعى فى السياق العربى.

• • •

بات الذكاء الاصطناعى محركا رئيسا للاقتصادات الحديثة، إذ تشير تقديرات شركة PwC إلى أن هذه التقنية قد تضيف 15 تريليون دولار للاقتصاد العالمى بحلول العام 2030. لكن السؤال الجوهرى الذى يطرح نفسه هو: أى جزء من هذه الكعكة ستحصل عليه الدول العربية؟

فى مجال العلوم الطبيعية لدى الغرب، سنجد كيف أن تجارب مثل استخدام الذكاء الاصطناعى تمهد لاستكشاف أدوية لمرضى السرطان (كما فى مشروع   DeepMindالتابع لجوجل)، أى كيف أن هذه التقنية قادرة على اختصار عقود من البحث.

أما عربيا، فثمة مبادرات واعدة، مثل مشروع «حاسوب الجينوم العربى» فى الإمارات، الذى يهدف إلى تحليل البيانات الوراثية للسكان باستخدام الذكاء الاصطناعى، ما قد يسهم فى مكافحة الأمراض المزمنة المرتبطة بالجينات.

لكن، تجدر الإشارة إلى أن مبادرة الجينوم الإماراتى لا تزال مشروعا قيد التطوير، وأن التكامل مع الذكاء الاصطناعى لم يعلن عنه بشكل موسع بعد.

• • •

على الرغم من الإنجازات الفردية، مثل إنشاء «مدينة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعى» فى أبو ظبى، أو إطلاق السعودية منصة «سدايا» لقيادة التحول الرقمى، تظل الفجوة هائلة. فوفقا لتقرير البنك الدولى للعام 2023، لا يتجاوز عدد براءات الاختراع العربية المرتبطة بالذكاء الاصطناعى 0.3% من الإجمالى العالمى، مقارنة بـ 62% للولايات المتحدة والصين. هذا بالإضافة إلى ثلاثة تحديات بالغة الأهمية، تواجه معظم الدول العربية، وهى:

التبعية التكنولوجية: حيث إن 90% من خوارزميات الذكاء الاصطناعى المستخدمة عربيا مستوردة من الخارج، وفقا لدراسة أجرتها جامعة كامبريدج فى العام 2024.

استنزاف العقول: إذ يهاجر 45% من الكفاءات العربية المختصة فى علوم البيانات إلى الخارج سنويا، بحسب منظمة العمل العربية، بسبب ضعف البنية التحتية البحثية.

الفجوة التشريعية: حيث لا يوجد إطار قانونى عربى موحد لتنظيم أخلاقيات الذكاء الاصطناعى، بينما أطلقت اليونسكو فى العام 2021 أول إطار عالمى لهذا الغرض.

وهذا يعنى أن البيانات العربية تعالج عبر أنظمة صممت بمرجعيات ثقافية غربية، ما يهدد بتحيز منهجى ضد الخصوصيات المحلية.

الاقتصاد الأخضر: هل يصبح الذكاء الاصطناعى العربى رافعة للاستدامة؟

هذا وفى الوقت الذى توظف فيه ألمانيا الذكاء الاصطناعى لتحسين كفاءة شبكات الطاقة المتجددة، بدأت بعض الدول العربية تخطو خطوات جريئة:

المغرب: استخدام الذكاء الاصطناعى فى إدارة مشروع «نور» للطاقة الشمسية، الأكبر من نوعه عالميا، لتحسين توزيع الطاقة. لكن، حتى هذه اللحظة، فإن دور الذكاء الاصطناعى فى إدارته لا يزال محدودا، وفقا للوكالة المغربية للطاقة الشمسية.

مصر: التفكير فى اتخاذ خطوات جدية نحو تطبيق أنظمة الرى الذكى المدعومة بالذكاء الاصطناعى فى مشروع الدلتا الجديدة، ويتوقع أن يحقق ذلك فى المستقبل القريب توفيرا للمياه بنسبة 40%.

لكن، ما زالت النتائج المحلية محدودة؛ وقد ذكرت «منظمة الأغذية والزراعة» (الفاو) فى العام 2023 أن مصر توفر بين 15 إلى 25% من المياه بفضل استخدام التكنولوجيا، بينما أعلنت وزارة الموارد المائية والرى المصرية فى تقاريرها أنها نجحت فى توفير 1.5 مليار متر مكعب سنويا بفضل التكنولوجيا، وهو ما يشكل 7% من نسبة استهلاك المياه فى الزراعة. لكن هذه التطبيقات ما زالت غير منتشرة فى معظم مناطق الجمهورية وقراها ونجوعها وكفورها، وذلك بسبب التكاليف الضخمة لأنظمة الرى الذكية.

هذا، وفى مزارع نموذجية مثل «سرس الليان» فى المنوفية، وظفت أجهزة استشعار لقياس رطوبة التربة وتحديد احتياجاتها من المياه بدقة، كما وظفت هذه الأجهزة فى منطقة أخرى هى «توشكى» بالتعاون مع شركة نيدركو الهولندية، ما قلل الاستهلاك فى تلك المنطقة بنسبة 25% وفقا لتقارير البنك الدولى.

الإمارات: توظيف الذكاء الاصطناعى فى مشروع «غابات أبو ظبى الرقمية» لمراقبة التصحر وزيادة الرقعة الخضراء.

ثمة تجارب متنوعة، لكنها لا تزال محدودة النطاق، إذ تشير منظمة «الفاو» إلى أن 70% من التقنيات الزراعية الذكية فى المنطقة لا تزال تعتمد استيراد البرمجيات الأجنبية.

• • •

فى قطاع التعليم، تظهر منصة «مدرسة» الإماراتية، كيف يمكن للذكاء الاصطناعى تخصيص المحتوى التعليمى لمليون طالب عربى. أما فى الصحة، فسنجد أن البحرين أطلقت مبادرات فى التحول الرقمى للصحة، مثل منصة «نور» للتشخيص عن بعد. وإذا كان استخدام الذكاء الاصطناعى لتحليل الصور الطبية لا يزال فى مراحل مبكرة، وفقا لتقارير وزارة الصحة البحرينية لعام 2023، فإنه من المتوقع أن يسهم خلال السنوات المقبلة فى تقليص زمن التشخيص من 48 ساعة إلى 20 دقيقة.

أما عن المخاطر القائمة، فنذكر أن اعتماد الجامعات منصات مثل Coursera أو edX من دون تطوير أنظمة محلية، من شأنه أن يهدد بتحويل التعليم العربى إلى نسخة رقمية مكررة فى إطار التبعية الثقافية.

• • •

هنا تكمن المعضلة الأعمق: كيف نمنع الذكاء الاصطناعى من أن يتحول إلى أداة لـ «الاستعمار الرقمى»، كما يحذر الفيلسوف التونسى «أحميدة النيفر؟» يأتى هذا السؤال فى ظل بعض المظاهر الآتية:

تحيز الخوارزميات: تظهر نماذج اللغات الكبيرة مثل GPT-4 تحيزا ضد اللهجات العربية، حيث تصل دقتها فى فهم العربية الفصحى إلى 85%، بينما تنخفض إلى 35% فى اللهجات المحلية، وفقا لبحث من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» (MIT).

الاستلاب الرمزى: اعتماد معظم المؤسسات الإعلامية العربية على أدوات الترجمة الآلية مثل Google Translate، الذى ينتج لغة مشوهة تهدد نقاء العربية.

لذا، تبرز الحاجة إلى مشروعات مثل «جينسيس» فى تونس، الذى يطور نماذج لمعالجة اللهجات العربية، أو مبادرة «حاسوب التراث العربى» فى السعودية، لرقمنة المخطوطات باستخدام الذكاء الاصطناعى.

• • •

ثمة ثلاث استراتيجيات بالغة الأهمية ينبغى العمل عليها:

توطين التكنولوجيا:

استحداث مراكز أبحاث عربية مشتركة على غرارCERN الأوروبى، بتمويل من صندوق عربى مشترك.

تطوير «الذكاء الاصطناعى الإسلامى (Islamic A)» الذى يدمج الأخلاقيات الدينية مع التقنية، كما فى تجربة ماليزيا مع منصة «الفقه الرقمى».

إصلاح التعليم:

إدخال مادة «أخلاقيات الذكاء الاصطناعى» فى المناهج الدراسية، كما فعلت فنلندا عبر مشروع «Elements of AI».

تبنى نموذج «الجامعة الافتراضية العربية» بدعم من منظمة اليونسكو.

الشراكة العالمية:

التعاون مع الصين والهند لإيجاد بديل عن احتكار الغرب، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية.

وأخيرا، ليست المعركة حول الذكاء الاصطناعى مجرد سباق تقنى، بل هى صراع على الهوية والسيادة فى العصر الرقمى، حيث إن عالمنا العربى، وبحكم موقعه الجيوسياسى وثرواته الثقافية، قادر على الاضطلاع بدور محوري، شرط أن يدرك أن تطوير الذكاء الاصطناعى ليس خيارا، بل ضرورة وجودية.

وهذا يتطلب الاستثمار فى الذكاء الاصطناعى عربيا، للاستفادة من الإمكانات الهائلة فى جميع المجالات من التعليم إلى الصحة والاقتصاد، وتوجيه هذه الإمكانات بشكل مدروس بين جميع الدول العربية، وخصوصا أن لا مجال للتردد أو التأخير، لأن الآخرين يعمدون إلى ذلك بخطى متسارعة وأهداف واضحة ومستترة.

هنا تقع مسئولية تاريخية كبرى على الحكومات والبرلمانات والمجتمع المدنى والمؤسسات التعليمية والبحثية، لأنها وحدها القادرة على إدارة الاستثمار فى تطوير هذه التقنية وتوجيهها، وتوفير بيئة مؤاتية للابتكار، وهى أيضا التى يمكنها حث المجتمع على إدراك أهميتها، حيث التوعية بمخاطر حفظ الهوية الثقافية والإبداع البشرى، وأهمية الثقافة الرقمية، وتنمية القدرات الذاتية للأجيال الجديدة، ورعاية ذلك بالشكل الأمثل الذى يستوعب حجم التحديات المتصاعدة وأبعادها السياسية والاقتصادية والبيئية والثقافية وغيرها.

ختاما، وكما قال عالم الحاسوب المصرى د. محمد القاضى: «الذكاء الاصطناعى هو آخر قطار للحضارة.. فهل سنركبه أم نكتفى بمشاهدته يمر؟».

أحمد مصطفى على حسين

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلي

   

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved