النهر الخالد
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الأربعاء 23 يونيو 2021 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
لا يعتبر نهر النيل شريانا فقط للحياة وللوجود، ولكنه يعتبر أيضا مُلهما للخيال وللتأمل، وبث السعادة والأمل فى قلوب الشعب المصرى، فقد نظم كبار الشعراء قصائد لوصف هذا النهر من النواحى المادية والنفسية والبيئية...، وتغنى بها كبار المطربين، وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم، وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، والعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ...، ومن غير المصريين عاشقة مصر الفنانة اللبنانية نجاح سلام!.
تغنت أم كلثوم بقصائد عديدة معظمها من تلحين الموسيقار رياض السنباطى، نذكر منها أشهر ثلاث؛ الأولى «النيل» (1948)، كلمات أحمد شوقى؛ افتتح أمير الشعراء قصيدته بتساؤلات تعبر عن الدهشة والتعجب؛ فهو يعتقد، كما يعتقد قدماء المصريين، أن النيل لا ينبع من جبال الحبشة بل ينبع من ينابيع الجنة، فهو منحة من السماء، وأزلى لا نهاية له، وقديم قِدَم الكون؛ و«القديم» فى الفكر الإنسانى مرتبط بالإلوهية، وبالتالى مُقدس؛ كما أن هناك أساطير قديمة مرتبطة به، منها «عروس النيل» التى كانت تتمثل فى أن تُلقى أجمل الفتيات فى النيل كقربان له ليظل وفيِّا فى عطائه وخيراته؛ هكذا يبدأ أبياته بتساؤل عن تاريخ وجود النيل:
من أى عهد فى القرى تتدفق وبأى كف فى المدائن تغدق.. ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولا تترقرق!
ثمّ تتوالى الأبيات فى وصف النهر بالصفاء والنقاء والبركة والمنفعة للناس، فهو يُسقيهم ويجعلهم يغرسون أشجارهم، ويروون مزارعهم، وفى ختام الوصف يؤكد أمير الشعراء على قدسية النيل، وأن الحفاظ عليه نوع من العبادة!
هكذا يقول:
لو أن مخلوقا يؤله لم تكن لسواك مرتبة الإلوهية تخلق.. جعلوا الهوى لك والوقار عبادة إن العبادة خشية وتعلق!.
وكانت الثانية «شمس الأصيل» (1955) لمحمود بيرم التونسى، قصيدة رومانسية تتغزل فى نهر النيل، وتصفه بأنه مثل الحبيب، ليس له مثيل فى الصفاء واللين والرقة والحلاوة، ويوجه الشاعر كلامه للحبيب وللنيل معا الذى يستحضره كإنسان، فيقول:
يا نيل أنا واللى أحبه.. نشبهك بصفاك.. لانت ورقت قلوبنا.. لما رق هواك.. وصفونا فى المحبة.. هو هو صفاك.. ملناش لا إحنا ولا انت.. فى الحلاوه مثيل
وكانت الثالثة «سلاما شباب النيل» (1958) للطبيب إبراهيم ناجى، يوجه فيها نداء لأبناء مصر، ويصفهم بـ«شباب النيل»، وليس بـ«المصريين»، وفيها يُشجعهم على بذل الجهد والعمر، لتعيش مصر عزيزة كريمة بفضل سواعد أبنائها، وفكر علمائها، هكذا يُحفذهم:
سلاما شباب النيل فى كل موقف.. على الدهر يجنى المجد أو يجلب الفخرا.. تعالوا فقد حانتْ أمور عظيمـة.. فلا كان منا غافل يصم العصـــــرا (...) تعالوا نقل للصعب أهلا فإنــنا.. شباب ألفنا الصعب والمطلب الوعرا
•••
وكذلك غنَّى ولحن محمد عبدالوهاب قصائد عديدة، نذكر منهن أشهر ثلاث؛ الأولى «النيل نجاشى» (1933) لأحمد شوقى؛ والثانية: «الجندول» لعلى محمود طه (1941)؛ والثالثة: «النهر الخالد» لمحمود حسن إسماعيل (1954).
نَظَّم أحمد شوقى «النيل نجاشى» باللهجة العامية؛ و«النجاشى» فى اللغة الأمهرية يعنى «الحاكم»، إشارة لـ«ملك الحبشة» الذى أحسن استقبال المهاجرين المسلمين فى عهد النبى عليه السلام، ولعل أمير الشعراء اختص نسب النيل للنجاشى لينبهنا بأن فى الحبشة من هم على غير أوصاف النجاشى، ففيهم من هم على شاكلة «أبرهة الأشرم» الذى قام بحملة عسكرية على مكة لهدم الكعبة، وقد فشلت الحملة التى استعان فيها بـ«الفيل»، وذُكرت قصته فى القرآن الكريم: «سورة الفيل»؛ حيث أرسل الله طيرا أبابيل، فقضت على جيش أبرهة، وقتلته إحدى الطيور بحجارة من سجيل!.
وتُشخص كلمات الأغنية «النيل» فتتغزل فى جماله:
النيل نجاشى.. حليوه أسمر.. عجب للونه دهب ومرمر.. ارغوله فى ايده.. يسبح لسيده.. حياة بلدنا.. يا رب زيدُه...
وفى القصيدة الثانية: «الجندول» (أى المركب) يرسم الشاعر على محمود طه، بأجمل صورة، المدينة الإيطالية الساحلية «البندقية» (فينيسيا)، فى عيد «الكرنفال» (تقليد كاثوليكى وأرثوذكسى)، جعل القارئ والمستمع كأنهما يصاحبانه فى الجندول، فيتخيلان ما يراه الشاعر:
أين من عينى هاتيك المجالى.. يا عروس البحر يا حلم الخيال.. أين عشاقك سمار الليالى.. أين من واديك يا مهد الجمال.. موكب الغيد وعيد الكرنفال.. وسرى الجندول فى عرض القنال
ورغم أن القصيدة مخصصة لوصف «الكرنفال» فى فينيسيا، إلا أن مُخيلة الشاعر استحضرت بهاء وجمال مصر، فتذكر الأهرامات، ووادى النيل، وجمال ملوك مصر القديمة مثل كليوباترا، وتمنى لو كانت معه حبيبته التى تصاحبه فى «الجندول»، وتركب معه مركبا فى النيل، فيشاهدان سويا جمال مصر الذى لا يقل عن جمال فينيسيا!
هكذا ينشُد:
قلت والنشوة تسرى فى لسانى.. هاجت الذكرى فأين الهرمان.. أين وادى السحر صداح المغانى.. أين ماء النيل أين الضفتان.. آه لو كنت معى نختال عبره.. بشراع تسبح الأنجم أثره.. حيث يروى الموج فى أرخم نبره.. حلم ليل من ليالى كليوبتره...
وغنى أيضا عبدالوهاب «النهر الخالد»ــ أشهر أغانيه والتى لُقِّب بها ــ لمحمود حسن إسماعيل، وتصف القصيدة جمال ضفاف النهر، والنخيل المتواجد على ضفتيه، وفيها يناجى الشاعر النهر الذى يجسده، ويصوره بأنه يسقى الحب والأغانى، وتتميز القصيدة بكثرة التشبيهات، والصور البلاغية، ويتجلى ذلك بتجسيد نهر النيل بشخص يناجيه الشاعر، فيبدأ القصيدة بوصف أحد المسافرين الذى أخذته النشوة، وهام به الخيال، وهو يشاهد النيل:
مُسافرٌ زاده الخيالُ والسحر والعطر والظلالُ.. ظمآن والكأس فى يديه والحب والفن والجمالُ.. شابت على أرضه الليالى وضيعت عمرها الجبالُ
ثم يُعدد الشاعر، فى المقطع الثانى، أهمية النهر فى الوجود:
يا واهب الخلدِ للزمانِ يا ساقى الحبِ والأغانى.. هات اسقنى واسقنى ودعنى أهيـم كالطير فى الجنانِ
وفى المقطع الأخير، يوجه الشاعر حديثا مباشرا للنهر:
سمعت فى شطك الجميلِ ما قالت الريحُ للنخيلِ.. يسبح الطيرُ أم يغنى ويشرح الحبَ للخميلِ؟.. وأغصُنٌ تلك أم صبايا شربن من خمرة الأصيلِ؟ (...) آهٍ على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ.. يا نيل يا ساحر الغيوبِ
•••
وكذلك لم يفت عبدالحليم حافظ التغنى بحب النيل، وكانت أشهر أغانيه: «يا حلو يا أسمر«، كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجى، وفيها يُبين الشاعر أن الارتباط بالنهر لم يقنعنا به أحد، لكننا وجدناه نبضا فى دمنا، وعصبا رئيسيا فى وجداننا، هكذا ينشد حليم بصوته الحالم البديع:
يا تبر سايـل بين شطيــن.. يـا حـلـو يـا أسمـــر.. لولا سمارك جـوّا الـعيـن.. مــا كانــش نـَوّر(...) الدنيا مـن بـعـدك مــرة.. يا ساقى وادينا الحيـاة.. دا للـى يدوق طعمك مــرة.. بالمستحيل أبدا ينساك.. يا نعمة من الخلاق يا نيل.. دى مَـيِّتَـك ترياق يا نيل...
وبعد أن نظم شاعر النيل محمود حسن اسماعيل أجمل قصائده الرومانسية عن «جمال» النيل فى «النهر الخالد»، نظم ــ أثناء العدوان الثلاثى (1956)ــ أعظم قصائده التى عَبَّر فيها عن «قيمة ودور» النيل فى الدفاع عن المصريين: «أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاةْ»، غنَّتها الفنانة نجاح سلّام؛ فكما أن النيل يهب الحياة للمصريين، فإنه يسلبها من المُعتدين، ويصبح مقبرة لهم!؛ فمياه النيل التى من طبيعتها إطفاء الحرائق تصبح نارا فى يدى الشعب تحرق وتبيد الأعداء!؛ فقد وحّد الشاعر بين الشعب والنيل، واستخدم فى الشطر الثانى من بيته الأول كلمة «الشعب« بديلا عن «المياه»، ليقول إن النيل هو الشعب، والشعب هو النيل!
هكذا أنشدت نجاح سلّام بصوتها الجَهورى:
أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاةْ.. أنا الشعبُ ناريْ تُبيدُ الطغاةْ.. أنا الموتُ فىْ كلِّ شبرٍ.. إذا عَدوُّكِ يا مصرُ لاحَتْ خُطاهْ.. يدُ اللهِ فىْ يدِنا أجمعينْ تصبُّ الهلاكَ على المعتدينْ...
لم يُلهم النيل فقط الشعراء والمطربين/ات، ولكن كان له حضور قوى ومتنوع فى مئات القصص والروايات لكبار الأدباء، والتى تحولت إلى روائع سينمائية، نذكر منها: «ابن النيل»، و«الناس والنيل»، و«الأرض»، و«صراع فى النيل»، و«شىء من الخوف»، و«النداهة»، و«عروس النيل»، كل فيلم ظهر فيه النيل بشكل مختلف يتوافق مع القصة!.
تعددت إذن الأغانى والأفلام والخيال الشعبى، وتنوعت القصص والأشعار والأساطير احتفاءً بالنيل، فهو الأب والمعلم والنور الذى على هديه عاش المصريون، وتعلموا وزرعوا وحصدوا، وصدق قول الشاعر الفلسطينى محمود درويش: «أنا ابن النيل، وهذا الاسم يكفينى»!
وختاما، يقول النيل ــ هذا النهر الخالد ــ لكل معتدٍ أثيم: «أنا النيل مقبرة للغزاة»!
ويقول أبناء النيل للطغاة:
أنا الشعبُ نارى تُبيدُ الطغاةْ (...) سنمضى رعودا ونمضى أسودا.. نرددُ أُنشودةَ الظافرينْ (...) لنا النصرُ.. والموتُ للمعتدين!