الاقتصاد السياسى للمشهد الأفغانى
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 23 أغسطس 2021 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
«ابحث عن الاقتصاد»، هكذا تخبرنا خلاصة تفاعلات السياسة العالمية، بكل ما تمخضت عنه من تجارب وخبرات، كما تعلمنا أدبيات العلاقات الدولية، بعصارة ما بلورته من مبادئ ونظريات. فغير بعيد عن الصورة الذهنية النمطية السلبية التى استوطنت مخيلة العالمين بشأن أفغانستان، بينما لا تفتأ مختلف الوسائط الإعلامية تكرسها من خلال عرضها المأساوى والمتواصل لفصول تراجيديا القتل، والحرق، والهجرة، واللجوء، وشظف العيش، تؤكد دراسات جيولوجية أمريكية أجريت عام 2007، أن البلد الكامن بقلب القارة الآسيوية، ويصارع الفشل منذ عقود، يطفو على مخزون هائل من الثروات الباطنية. ففى عام 2013، قدَر تقرير مشترك للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى القيمة الاقتصادية لاحتياطياتها من المعادن النفيسة، والعناصر المشعة، بما يربو على ثلاثة تريليونات دولار.
تؤكد التقديرات أن جبال أفغانستان، التى طالما شكلت ملاذات للمارقين، وصحرائها التى مثلت ميادين لحروب طاحنة، سواءً بين مكونات الموزاييك الإثنى المعقد والملتهب بقيادة أمراء الحرب، أو فى مواجهة الجحافل العسكرية الأجنبية الغازية، تحتضن عروقا لمعادن ثمينة، مثل الذهب والفضة والنحاس والألومنيوم، والزنك، والكوبالت، والزئبق، والبوكسيت، علاوة على طيف مذهل من العناصر الكيميائية المشعة، وأبرزها الليثيوم، الذى يستخدم فى صناعات دقيقة وحساسة، مثل الإلكترونيات ذات التكنولوجيا الفائقة، وبطاريات الهواتف الذكية، وبطاريات السيارات الكهربائية، والأقمار الاصطناعية، والمعدات العسكرية المتطورة، كالرادارات والطائرات.
كونه موضع تنافس أمريكى ــ صينى حول سلاسل الإمداد الخاصة بإنتاج الطاقة النظيفة، إذ يستخدم فى تصنيع بطاريات تخزين الطاقة الكهربائية المنبعثة من المصادر المتجددة، كما منشآت توليد الطاقة الشمسية ومزارع الرياح، يكتسى تهافت القوى العظمى على عنصر الليثيوم أهمية جيوسياسية. فلقد تنامى الطلب عليه خلال الآونة الأخيرة، مع اتجاه مصانع السيارات للتوسع فى إنتاج المركبات الكهربائية، بعدما أعلنت الدول المنتجة لها، اعتزامها تقليص بيع السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلى، توخيا لبلوغ الحياد الكربونى، ثم تشديد البنك الدولى على ضرورة مضاعفة إنتاج الليثيوم خمس مرات، توسلا لتصفير الانبعاثات الغازية الضارة بحلول العام 2050. وبتفاقم الاهتمام العالمى بالاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة، تتوقع وكالة الطاقة الدولية، ازدياد الطلب العالمى على الليثيوم بمعدل 40 ضعفا بحلول عام 2040. الأمر الذى من شأنه تعظيم العائدات الأفغانية المحتملة مستقبلا، خصوصا بعدما وصفت مذكرة لوزارة الدفاع الأمريكية عام 2010، أفغانستان بـ«سعودية الليثيوم»، فى إشارة إلى امتلاكها أضخم احتياطى عالمى من ذلك العنصر الحيوى.
لم يتسنَ لثروات أفغانستان الباطنية الهائلة تحرير اقتصادها الهش من أغلال الانهيار المحبط، أو إسار الاعتماد المفرط على المساعدات الدولية، أو حتى تذليل العقبات التى قوضت طموحاتها التنموية حينا من الدهر. فما برح البلد المنعوت بأنه «مقبرة الغزاة»، يكابد التداعيات المؤلمة والمزمنة للغزو الأجنبى المتكرر، والحروب الأهلية المتجددة، كانعدام الأمن، وغياب الاستقرار السياسى، والوهن المؤسساتى، وتدهور البنى التحتية، وتفشى الفساد، ونزيف العقول، وهروب المستثمرين الأجانب، وافتقاد البلاد لثقة المانحين الدوليين، علاوة على غياب الإطار السياسى والقانونى الذى يحمى وينظم عملية إدارة الموارد.
شأنها شأن غالبية البلدان النامية ذات الموزاييك الإثنى القلق، اعتبر، أشرف غنى، الخبير الاقتصادى، ورئيس أفغانستان الهارب عشية سيطرة طالبان على عاصمتها، تلك الثروات الباطنية بمثابة «لعنة» أو «نقمة» على بلاده. حيث أفضى سوء إدارتها، إلى استشراء الفساد، وشيوع العنف، وتعميق الخلل البيروقراطى، بما يحول دون تحقيق الاستغلال الأمثل لها. فما فتئت غالبيتها العظمى دفينة الرمال أو حبيسة الجبال، فيما لم يتم التنقيب عن الموارد الهيدروكربونية، كالفحم والنفط والغاز، فى قرابة 98% من أراضى البلاد المترامية.
ما إن تترسخ دعائم هيمنتها على مقاليد السلطة فى ربوع أفغانستان، حتى تواجه حركة طالبان معضلة الاضطلاع بالمهام الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الثقال المنوطة بالسلطة الحاكمة. فبعيد دخولها العاصمة كابول منتصف الشهر الحالى، تعهدت قياداتها بتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، والنهوض بالاقتصاد المهترئ. لكن من دون تأمين الدعم الدولى اللازم، أو استعادة حرية التصرف فى الاحتياطيات القابعة بالخارج، ربما تغدو تلك الوعود محض مسكنات أو ضربا من الوهم، لاسيما بعد إعلان المانحين الدوليين تعليق مساندتهم لأفغانستان عقب سيطرة طالبان على كابول. فما كادت إدارة بايدن تعلن تجميدها عشرة مليارات دولار من الأصول الخارجية للبنك المركزى الأفغانى، ووقف مختلف الشحنات النقدية، ومناشدة المقرضين متعددى الأطراف مثل الصندوق والبنك الدوليين تعليق التعامل النقدى مع كابول، حتى أعلن الأخيران حرمان الحركة من الوصول إلى حسابات أفغانستان، أو تسلم مخصصات، حان موعدها، من صندوق النقد الدولى بقيمة 455 مليون دولار، أو الحصول على أى قروض أو مساعدات مالية، أو تخصيص جديد لاحتياطيات حقوق السحب الخاصة. وبعدما سبق وتعهد بمنحها 1.2 مليار يورو كمساعدات طارئة وتنموية بين عامى 2021 و 2025، ، قطع الاتحاد الأوروبى التمويل التنموى والمساعدات الحكومية عن أفغانستان، بجريرة تأخر الاعتراف الدولى الصريح بسلطة طالبان الجديدة.
وبينما تنخر الأزمات جسد الاقتصاد الأفغانى، بدأت عائدات طالبان، التى قدرها تقرير لجنة العقوبات بمجلس الأمن الدولى فى مايو 2020، بزهاء 1,5 مليار دولار سنويا، فى الانكماش. فبينما كانت تجنيها من أنشطة محرمة، كزراعة الخشخاش الذى يستخرج منه الأفيون والهيروين، وتحتكر أفغانستان أكثر من 80% من إنتاجهما عالميا، ويدر عليها أربعة مليارات دولار سنويا، مرورا بابتزاز الشركات المحلية، وطلب الفدى بعد عمليات الخطف، وإثقال كاهل المناطق التى تسيطر عليها بالضرائب، والاستغلال غير القانونى لمواردها، وصولا إلى التبرعات والدعم الخارجى، بدأت جميعها فى التقلص بعدما تعهدت الحركة، فى رسائلها التطمينية والتصالحية فور استيلائها على كابول، بالإقلاع عن جميع الممارسات غير المشروعة، التى كانت تعتمد عليها فى تحصيل الأموال.
ربما لا يستقيم سجال اقتصادى بغير استحضار الصين، التى تشكل أفغانستان أهمية جيواستراتيجية لها على أكثر من مستوى. فأمنيا، يعتبرها الصينيون فناءهم الخلفى، الذى يتعين تطهيره من الوجود العسكرى الأمريكى، مع ضمان عدم تحوله إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، لاسيما متمردى الإيجور الصينيين. واقتصاديا، تتطلع بكين إلى اتخاذ أفغانستان قاعدة للهيمنة على قلب القارة الأسيوية، من خلال إدماجها فى منظمة شنغهاى، ومبادرة الحزام والطريق، عبر باكستان، التى تعد حليفا لبكين وطالبان فى آن، مما يخول بكين ربط طرق التجارة التى تمر عبر آسيا الوسطى بتلك التى تشق أراضى باكستان، ومحاصرة مشروع ميناء تشابهار، الذى دشنته الهند وأفغانستان بسواحل إيران، فى مايو 2016.
عقب تعيينها مبعوثا خاصا لأفغانستان، انبرت بكين، الطامعة فى تحقيق الاستفادة القصوى من الانهيار الصادم للاستراتيجية الأمريكية هناك، فى تعميق انخراطها بالشأن الأفغانى، لتغدو شريان الحياة الاقتصادى لطالبان، سواء بشكل عاجل عبر إمطارها بالمساعدات والقروض، أو فى الأجل المنظور، من خلال الاستثمار فى برامج إعادة الإعمار وتطوير البنى التحتية الأفغانية ضمن سياق مبادرة الحزام والطريق، فضلا عن تسخير الخبرات الصينية الفريدة للاستثمار فى ثرواتها الباطنية الواعدة. وفى حين تطمح الولايات المتحدة إلى تحرير سلاسل إمدادات مستلزمات الطاقة النظيفة من احتكار الصين، التى تعتبر أكبر منتج لمعدن الليثيوم عالميا، بينما تعاود شركاتها توسيع أنشطتها فى قطاع التعدين بكبريات المناجم الأفغانية، يوجه التقارب المتسارع بين بكين، التى تعد أكبر مُصَنِّع للمركبات الكهربائية عالميا، وطالبان، التى باتت تستحوذ على 60% من الاحتياطى العالمى لليثيوم، ضربة موجعة للاستراتيجية الأمريكية، الرامية إلى تقويض تغلغل الصين آسيويا، وإجهاض تمددها وصعودها العالمى.
بقدر اضطرارها إلى ترميم علاقاتها الخربة بالعالم أجمع، واستعادة ثقة المانحين الدوليين أملا فى تحقيق اختراق اقتصادى لافت، تحتاج طالبان إلى ترسيخ دعائم حكمها الجديد. فسياسيا، تترنح شرعية الحركة على وقع مسيرات احتجاجية اجتاحت بعض ضواحى العاصمة كابل ومدن ولايات شرق البلاد، بمناسبة إحياء الذكرى الثانية بعد المائة لاستقلالها، رفع المتظاهرون خلالها العلم الأفغانى ووضعوه بميادين عدة بدلا من علم الحركة، فيما بدا وكأنه تحدٍّ شعبى لسلطتها الجديدة، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى. وعسكريا، تواترت الأنباء حول احتشاد قوات المقاومة التابعة لأمر الله صالح، نائب الرئيس السابق، وأحمد مسعود، نجل الزعيم الطاجيكى أحمد شاه مسعود، فى وادى بنجشير بشمال شرقى كابل، والذى لم تدركه سيطرة طالبان، مطلقين النفير ضد الحركة، ومستجدين المؤازرة اللوجيستية من قوى غربية وأطراف إقليمية.
يبقى المشهد الأفغانى، والحال هكذا، مفتوحا على عديد سيناريوهات، فى بلد يتآكل اقتصاده، ويمزقه الفسيفساء العرقى والقبلى، وتتهدده الحرب الأهلية، مع تداعى أمراء حرب، ومسئولون بالحكومة السابقة، وما يسمى بالمقاومة الشعبية، لإسقاط حكم طالبان. وبينما تساءل وزير الخارجية الروسى، سيرجى لافروف، بشأن مدى إحكام الحركة سيطرتها على عموم الأراضى الأفغانية، برأسها تطل مقولة، جنكيز خان «بمقدورك احتلال العالم وأنت على ظهر حصان، لكنك لا تستطيع أن تحكمه بالطريقة ذاتها».