عورة الأدمغة
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 23 أكتوبر 2016 - 11:55 م
بتوقيت القاهرة
قلبت أوراقها وهى تتحدث عن تجربتها. تلك هى العائدة قبل يوم فقط من أكثر المدن اشتعالا وهى الصحفية المخضرمة القادمة من أهم المحطات التلفزيونية الأمريكية، وهى أيضا المتخصصة فى قضايا المنطقة والتى قضت حياتها المهنية بأكملها بين مدن العرب المشتعلة وجيرانها غير العربية أيضا! تحدثت بكثير من الألم حتى أنها حاولت أن تدارى عيونها بعيدا لكى لا أرى بقايا الدمع الغزير الذى تساقط وهى هناك تراقب القتلى والجرحى ومعظمهم من النساء والأطفال.. هى تعرف معنى القتل العبثى بالطبع فقد كانت فى الحرب العراقية ــ الإيرانية بين الكثير من الحروب الأخرى ومنذ تلك الحروب وهى لا تمل من زياراتها المتكررة لعواصم عربية وجارتها طهران. تقارن الوضع هنا وهناك تقف عند التفاصيل ولا تكتفى بالمسئولين فهى تعرف أن الرواية كل الرواية لا تكتمل إلا بالحديث مع الناس والالتصاق بهم.. تعشق المحمرة والأكل الحلبى من الكبب حتى كل أطباق الحلويات.. بين الفينة والأخرى وهى تقلب الأوراق المبعثرة بين يديها تكرر السؤال وماذا بعد؟ أو إلى متى يستمر كل هذا الدم والقتل؟ وهى تعرف أيضا أن لا إجابة لدى حتما إلا بعض التكهنات كما يفعل الجميع.. تعرج على اليمين وتدمع عيناها مرة أخرى هى الإنجليزية العاملة فى محطة أمريكية.
***
توقفت بعد بعض الكلمات المغمسة بالدمع المغلفة بالحزن العميق لتطرح سؤالا سبب لى الكثير من الارتباك بل ربما الحرج، قالت: «لماذا لا يقرأ العرب؟» وعقدت مقارنة بعواصم قريبة بل متلاصقة بعواصمنا حيث المشهد المتكرر فى الحافلات العامة والعربات والقطارات هى لبشر من مختلف الأعمار حاملين الكتب منهمكين فى فعل القراءة، مما شكل لها سؤالا قالت إنها طرحته على أكثر من عربى وعربية، تعيد تكرار السؤال دون أن تجد جوابا حقيقيا ومقنعا.. تلعثمت أنا فى محاولتى للبحث عن إجابة مقنعة أو شافية فانزلقت فى فواصل كلماتى.. أدركت هى حجم الارتباك فحاولت التخفيف عنى بأن رددت: «هو حتما ليس بمرض ولكنه منتشر جدا على الرغم من أننى أدرك أن هناك عربا يقرءون..».
فشلت محاولات تأثير التطور التكنولوجى وانغماس كثير من العرب فى هذا التطور ورحيلهم عن الوسائل التقليدية إلى الكتب المرقمة والمواضيع عبر الهواتف النقالة والآيباد وغيرها.. يبدو أن بعض إجاباتى استفزتها فقالت: «ولكن الثورة التقنية قد أصابت الجميع ولم تكن محصورة فى العرب، وأنها فى لندن تجد الكثيرين لا يزالون يقرءون الكتب على مختلف الوسائل الحديثة»، ولكنها رددت: «أنا لا أريد أن أطرح المقارنة ولكنى أعجز أن أقارنكم بجيرانكم؛ ففى طهران لا يزال مشهد حاملى الكتب فى الأماكن العامة والمنهمكين فى فعل القراءة مشهدا متكررا ومنتشرا، وهم على الضفة الأخرى من الخليج تفصلكم عنهم تلك المياه الدافئة!».
***
رحلت هى مع ساعات الصباح الأولى إلى مدن القراءة والضباب تاركة مدن الشمس المشرقة المضرجة بفعل الجهل أو الثقافة المسطحة. لم تكن ملاحظتها هى الأولى التى سمعت أخيرا كما أنها لن تكون الأخيرة، ربما المثير فيها هو المقارنة بدول الجوار الذين أصابهم ما أصاب الكثير من جيرانهم على مختلف العقود والسنوات ولكنهم بقوا محافظين على الكثير من العادات التى كانت، ومنها الرغبة المتناهية فى البحث عن المعرفة وعن الجديد؛ لذا فهم يتطورون حتما فيما نغرق نحن فى مزيد من الاستهلاك والتسطيح.
كلامها فتح الجرح الأبدى خاصة عندما يحاول أحدنا متابعة الحوارات على وسائل التواصل الاجتماعى ليجد كمًا من الانحدار وكمًا من الضحالة والتركيز على الحسيات أو الكثير من السخرية والتفاهات.. هنا فى هذا الفضاء الواسع انكب العرب على تداول إما كثير من الدين المجهل وإما كثير من الجهل المتدين!! أو مزيج من السفسطة والتزلف أو حتى ربما محاولات للتماهى بعلية المسئولين السياسيين الغربيين الذين أدركوا أهمية هذه الوسائل الحديثة فاستغلوها بأكثر فاعلية فى نقل الرسائل الدقيقة أو حتى فى تشويه الحقائق المتعمد أو نشر سياساتهم تجاه هذه المنطقة..
***
فعل القراءة أو قلته بل ربما انعدامه جلى جدا لدى القائمين على دور النشر الذين أصبحوا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الإغلاق و«طلب السترة» أو محاولة البقاء فوق سطح الماء بفعل قليل من الأكسجين عبر وسائل مبتكرة للنشر؛ مثل الطلب من صاحب الكتاب أن يدفع تكلفة الطباعة فى مقابل أن يوضع اسم الناشر الذى كان من أهم دور النشر العربية، تلك التى كانت لها عواصم بأكملها تتفاخر بأنها «تطبع» ليقرأ الآخرون من البحر إلى البحر..
سقطت الكتب من ميزانيات الأسر العربية عندما زادت التكلفة بعض الشىء وافتقر معظم العرب إن لم يكن أغلبهم، وأصبحت لقمة العيش أعز وأشح من العرق، وانتشرت وسائل إعلام هى الأقرب لوزارات خارجية دول بعينها تنهم منها كثيرا من السموم لتنشرها بين الجميع مستغلة الدين حتما ودوما؛ فهو السلاح الباقى دوما فى أيدى السلطات على اختلافها وتلاوينها..
***
لماذا لا يقرأ العرب؟ عاد سؤالها يطاردنى وكنت قد ودعتها ومضيت راغبة فى أن تبتلعنى الأرض قبل أن أسمع مثل هذا السؤال المقرون بالمقارنات لشعوب هى الأخرى تعانى من الفقر والجهل والتهميش كما شعوبنا أو كثير من شعوبنا.. ولم أستطع أن أنسى نظراتها المندهشة لى عندما أخبرتها أنه لا يزال هناك الكثير من معارض الكتب فى كل عاصمة عربية، كثير ما يتدخل الرقيب ليسحب أعدادا من الكتب حتى وصلت يد الرقيب إلى دواوين محمود درويش.. إن أكثر الكتب مبيعا فى هذه المعارض هى كتب الطبخ والدين دون منازع ولا منافس، ويأتى بعدها بعض من الكتب والروايات التى يكتبها عرب لقارئ أجنبى تثيره الحياة الجنسية لنساء النقاب والحجاب.. كثير من الاستشراق هو ما يسود مثل هذه الكتابات التى ما تلبث أن تترجم إلى الكثير من اللغات فقط لأنها ترسخ نفس تلك النظرة الاستشراقية عن العرب.. لأنها تعيد رسم الحريم الجدد فى القصور العربية..
***
بعدها لا نملك إلا أن نتوقع المزيد من السقوط فى القاع أو ما بعد القاع، فدون وعى وثقافة لا نهضة لنا حتما… دون الكتب نحن أكثر الشعوب فقرا وجهلا دون منازع كم محزن أن نعترف.. كم محزن أن نتعرى أمام المرآة فتسقط آخر ورقة تستر عورة الدماغ …