العنف
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 23 نوفمبر 2011 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
قضيت، بل قضينا، أياما نشاهد دماءً تسيل على أرض التحرير وحى الأربعين ووسط الإسكندرية، ونسمع عن عيون انطفأت بالرصاص أو بالضرب، ونرى جثة شاب مصرى تُسحل على أسفلت شارع من شوارع المدينة. المصريون يعيشون أياما سوداء مع طيور ظلام تمارس معهم عنفا متوحشا.
●●●
ومع ذلك، ورغم أن عنفا مماثلا يمارسه آخرون فى سوريا واليمن والبحرين، يعتقد ستيفين بينكر أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد أن العنف البشرى ينحسر. يقول فى كتاب جديد له بعنوان «كيف يعمل العقل» إن البشرية تعيش هذه الأيام أفضل أزمنتها، وليس أسوأها كما يتصور البعض. كان العنف فى العصور الوسطى أشد قسوة من العنف الذى نمارسه الآن والاحصائيات تبرهن على ذلك. كانت الحياة اليومية فى تلك العصور قوامها الغضب والدم والانتقام. نقرأ بشغف ورومانسية قصص «فرسان» أوروبا الذين حكموا اقطاعيات العصور الوسطى وما زلنا نقبل بحماسة على الأفلام السينمائية التى تروى أساطير بطولاتهم وشهامتهم نقرأ بالدرجة نفسها من الشغف والرومانسية الروايات والقصائد عن فروسية وجسارة فرسان البادية الذين كانوا يقودون حملات الإغارة على مضارب القبائل الأخرى ويغتصبون نساءها ويهاجمون قوافل الحج والتجارة، هؤلاء الفرسان أوروبيون وعرب كانوا فى حقيقة الأمر أمراء حرب، وكان الفارس المنتصر فى أوروبا هو ذلك الذى يقتل أكبر عدد ممكن من الفلاحين الذين يحرثون الأرض ويزرعونها لصالح الإقطاعى الآخر. كالعادة، ضحايا العنف كانوا، ومازالوا فى غالبيتهم العظمى، من الطبقات المقهورة والضعيفة.
●●●
لم يقتصر الأمر فى أوروبا على الفلاحين والفقراء كضحايا لعنف يمارسه الحكام والإقطاعيون، إذ كان القديسون من الجنسين يتعرضون لأسوأ الانتهاكات وأشدها توحشا، كانوا يعذبون فى أقبية الكنائس والأديرة والقصور وتشوه جثثهم باستخدام أبشع الأساليب. هذه الأساليب ذاتها استخدمت فى تعذيب المعتقلين السياسيين، وأكثرهم كان يعلق من ذراعيه فى سقف الزنزانة حتى تنفصل عظامه عن بعضها، أو يوضع على عجلة أو ساقية تدور فتغطس به صاعدة هابطة فى الماء أو تمر به رائحة غادية فى حلقة من اللهب. وفى النهاية كانت رأس السجين السياسى تقطع عن جسده. لاحظ مؤرخو العنف أنه ارتبط دائما بخوف الحاكم أو المهيمن من شخص يهدد بفكره استقرار النظام القائم أو يثير الشكوك فى مشروعيته وحقه فى احتكار القوة والتشريع. لذلك ركز إقطاعيو العصور الوسطى عنفهم ضد المفكرين الإصلاحيين سواء كانوا من داخل الكنيسة أو من الطبقة المتعلمة.
●●●
يشير ستيفين بينكر إلى أن هناك هدفين وراء الإفراط فى استخدام العنف فى العصور القديمة والوسطى، أولهما العقاب وثانيهما الردع. وأظن أن بينكر لم يتجاوز الحقيقة هنا، فقد نشأنا فى منطقتنا العربية على تراث جزء أصيل منه منظر عمليات الإعدام التى تنفذ بالسيف أو بغيره فى ساحات عامة. صحيح أن بعض الدول توقف عن استخدام هذا الأسلوب وغيره مثل قطع الأنوف لردع المواطنين عن ارتكاب الجرائم، وبقيت مجتمعات أخرى تمارس أنواعا أخرى لا تقل شذوذا. ثم جاء عصر التليفزيون ووسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة فصار عاديا أن تتعمد أجهزة القمع ممارسة القمع ضد المتظاهرين والمعتقلين أمام كاميرات التصوير، وتختار أحيانا شبابا يمكن أن تثير أسماؤهم أو أوضاعهم الاجتماعية اهتماما أوسع بين المواطنين، وبالتالى يتحقق قصد أن يتسع نطاق الردع.
●●●
العنف ينحسر، فى رأى بينكر، لأن الدول العظمى لم تعد تحارب بعضها البعض، ولأن الازواج لا يضربون نساءهم بالوتيرة نفسها التى سادت قبل عقود، ولأن الآباء لا يعاملون أولادهم بقسوة، ولعلهم لا يجرأون فثقافة الشباب المعاصر تتباين إلى حدود غير مسبوقة عن ثقافة الآباء والجدود، ولأن القبائل لم تعد تتمتع بحرية قتل الخصوم وشن الغارات على بعضها البعض. نعرف أيضا أن مخ الإنسان كالحيوان تتعرض خلايا معينة فيه إلى منشطات تثير الرغبة فى ممارسة العنف وخلايا أخرى إلى منشطات مهدئة. ولكن يختلف الإنسان عن الحيوان فى أن المنشطات التى يمكن أن تثير فيه الرغبة فى العنف أكثر عددا من المنشطات التى تثير نفس الرغبة فى الحيوان. فالإنسان يتعصب لايديولوجية أو لعقيدة دينية بينما يحيا الحيوان بدون عقيدة أو ايديولوجيا، والحيوان على كل حال لا يعرف التعصب. فضلا عن ذلك الإنسان مستعد أن يمارس العنف نفاقا أو سعيا وراء منصب وترقية أو انتقاما. وكلها ليست من خصال الحيوان ولا تدخل ضمن اهتماماته.
●●●
بينكر على حق حين يدلل على انحسار العنف بتقدم الديمقراطية وإقبال عدد أكبر من الشعوب على الأخذ بها اسلوبا للحكم ويربط بين انحسار العنف ومستوى التعليم، وبينه وبين كثرة السفر واختلاط الشعوب والنشاط السياحى و تدفق التجارة مع الآخرين، وهو على حق حين يربط بين العنف والاستبداد، وبين العنف وصعود حركات «التطهير» الدينى، ولعله يقصد حركات التكفير التى انتشرت مؤخرا فى مجتمعاتنا، ويربط بين العنف واتساع الفجوة التى تفصل بين المتعلمين وغير المتعلمين وبين الأغلبية الكاسحة المحرومة والأقليات الحاكمة والمستفيدة والمهيمنة وبين العنف والحرمان النسبى، وبين العنف وضعف الثقة بالنفس.
●●●
ليت بينكر تأخر فى نشر كتابه شهورا معدودة، فعندنا هنا الدليل أن العنف لا ينحسر. هنا يستمرون فى ممارسة العنف، وبإفراط، لأنهم لا يجيدون ممارسة غيره من أساليب الإقناع.