أوباما وإردوغان فى «أرض الميعاد»
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 23 نوفمبر 2020 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
من بين 750 صفحة تطوى شطر سفره ذى العنوان المثير «أرض الميعاد»، والذى يتوخى سبر أغوار ولايته الرئاسية الأولى من عام 2008 وحتى 2012، أفرد الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما أربع صفحات لاستعراض تجربته مع تركيا، التى تجاهل رئيسها الحادى عشر خلال الفترة من 2007 حتى 2014 عبدالله جول، بينما أولى اهتماما لافتا لإردوغان، الذى تولى رئاسة وزرائها خلال الفترة من 2003 وحتى 2014، قبل أن يقتنص حقبة رئاسية تمتد مؤقتا حتى العام 2023، فى دلالة، لا تخطئها عين، على طغيان نفوذه وهيمنته على عملية صنع واتخاذ القرار التركى، بغض النظر عن منصبه أو تموقعه داخل النخبة الحاكمة.
بشغف بالغ لدحض المزاعم المتعلقة برعاية ما عرف إعلاميا خلال تلك الآونة بـ«النموذج التركى»، ينضح سفر أوباما المنشور يوم 17 نوفمبر المنقضى. فبعدما تبرأ من اتهامات بدعم إردوغان ومباركة المساعى الرامية لتعميم تجربته عربيا وإسلاميا، بوصفها نموذجا ناصعا للإسلام الحداثى الليبرالى المتصالح مع العلمانية والديمقراطية والتنمية، كان يسبح عكس تيار الردة الديمقراطية الكونى الذى صادف التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية عام 2008، أكد أول رئيس أمريكى من أصول إفريقية أنه لم يكن مقتنعا، حسبما يظن كثيرون، باعتقاد إردوغان، الذى كان دائم الشكوى من المعارضة، فى حيوية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، بقدر ما كان متيقنا من اتخاذه الالتزام الاضطرارى المرحلى والوظيفى بها مطية لاستجداء الدعم الغربى وتوسيع قاعدته الانتخابية، توطئة لترسيخ دعائم حكمه وكسر شوكة خصومه ومعارضيه. لذا، لم يتردد أوباما فى الإفصاح عن رغبته فى الانتماء لفئة الشباب الذين نفذوا الثورة الناعمة المناهضة لمآرب حكام على شاكلة الرئيس التركى، الذى أكد أن علاقته به كانت تنطلق من مصالح متبادلة، ولم تتأسس أبدا على إيمان مشترك بمبادئ الحكم الرشيد.
فبعدما دأب خلال السنوات الأولى لانفراد حزبه بحكم تركيا منذ العام 2002، على التغنى بخطاب ليبرالى يفيض بشعارات التشبث بالديمقراطية والتعلق بتلابيب حقوق الإنسان، تزلفا لليبراليين الأتراك، وتوسلا لدعم حلفائه الغربيين، وتعزيزا لهيمنة حزبه، فى مواجهة مكائد التحالف المعادى الذى يضم غلاة العلمانيين والعسكريين والقوميين المتطرفين، طفق أقوى رئيس عرفته تركيا منذ عهد أتاتورك، يتخلى تدريجيا عن هذا النهج، على نحو ما تجلى فى قمعه لاحتجاجات ميدان تقسيم المناهضة له فى يونيو 2013، حيث شرع فى الانقلاب على الديمقراطية، والعصف بالحريات، والتحالف مع حزب الحركة القومية لتمرير مشروع التحول من نظام الحكم البرلمانى إلى الرئاسى، حتى غدت تركيا أسيرة لتحالف مقيت بين حزب إسلامى يجنح للردايكالية وآخر قومى يغازل التطرف. وبوصول ترامب للمكتب البيضاوى مطلع العام 2017، وتراجع ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى ذيل أولوياته، ثم إقرار إردوغان للنظام الرئاسى وبسط سيطرته على السلطتين المدنية والعسكرية عام 2018، بدأ احتياجه لإظهار فائض حماس للديمقراطية وولوج الفردوس الأوروبى، الذى يطارده الأتراك منذ العام 1959، فى التلاشى التدريجى، خصوصا بعدما أفلت من الحملات الضارية التى عكفت على التنديد بالهوى الإسلاموى لحزب العدالة، والتفزيع من العثمانية الجديدة، ليغدو الحليف الغربى، الذى دأب إردوغان على استرضائه والاستقواء به، عبئا أثقل كاهله وقيدا أدمى معصمه.
بمجرد إماطة اللثام عن توجهاته الاستبدادية، ومخططاته لإحياء العثمانية من خلال توظيف الإسلام السياسى داخل بلاده وخارجها، أضحت قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان سيفا مسلطا على رقبته، بعدما توالت الانتقادات الأوروبية والأمريكية لسجل تركيا بهذا الصدد، خصوصا منذ المحاولة الانقلابية المسرحية الفاشلة منتصف يوليو 2016، حتى اعتبر الاتحاد الأوروبى تمريره لنظام رئاسى يكرس لاستبداده ردة ديمقراطية، بينما أوصى البرلمان الأوروبى بتجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربى. بموازاة ذلك، تبارت الحكومات الغربية فى قطع أذرع إردوغان الإرهابية وتنظيماته السرية وجمعياته السياسية المتغلغلة فى دولها، عبر تضييق الخناق على جماعة الإخوان المسلمين، وتفكيك التكوينات التى تدور فى فلكها، بالتزامن مع المضى قدما فى حظر جماعة «الذئاب الرمادية» اليمينية المتطرفة.
ما برح إردوغان يصبو إلى توظيف تمنع الاتحاد الأوروبى فى قبول عضوية بلاده لتسويق مشروعه الهادف إلى أسلمة الدولة التركية واستنبات العثمانية الجديدة، مع ترويج سرديته الممجوجة عن زيف الوهم الأوروبى الذى ظلوا يطاردونه قرابة عقود ستة خلت، قدموا خلالها كل ما بحوزتهم من فروض الولاء والطاعة، وتحملوا فى سبيل بلوغه تبعات سياسية وأمنية واجتماعية هائلة ألقت بظلالها الكئيبة على هويتهم ونسيجهم الوطنى، بينما يصر الأوروبيون على استعلائهم وتمنعهم وإيصاد أبواب ناديهم المسيحى فى وجه الأتراك المسلمين. وهنالك، يطل إردوغان المخلص بطرحه البديل وملاذه الآمن، الذى يقدم الإجابة الجامعة المانعة لسؤال الهوية المزمن والمعقد عبر الترفع عن التعلق بتلابيب السراب الأوروبى المزعوم، والاستعاضة عنه بأمل الجمهورية التركية الثانية، التى تعيد إنتاج الماضى التليد، من خلال تحقيق أهداف «رؤية 2023 »، التى ستحول تركيا إلى دولة عظمى. فإبان المؤتمر العام السابع لـحزب العدالة والتنمية، أكد إردوغان أن بلاده اتخذت خطوات حاسمة، لتحتل المكانة التى تستحقها فى النظام العالمى، الذى سيعاد تشكيله بعدما تضع جائحة كورونا أوزارها.
ولقد كان للسياسة الخارجية نصيب فى مذكرات أوباما، التى أكد خلالها أن علاقته بالرئيس التركى كانت مبنية على مصالح متبادلة، حيث كان الأخير ينشد مساندة واشنطن لدعم مساعى بلاده لنيل عضوية الاتحاد الأوروبى، كما مساعداتها العسكرية والاستخباراتية فى كبح جماح النزعات الانفصالية الكردية التى أججها سقوط نظام صدام حسين بالعراق وتدهور الأوضاع فى سوريا، فيما كانت واشنطن بحاجة إلى تعاون تركى ناجز لمحاصرة روسيا ومكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار فى العراق، على حد قول الرئيس الأمريكى السابق.
مع نهاية شطر سفره الأول، عمد أوباما إلى تسليط الضوء على براجماتية إردوغان وعدم تورعه عن توظيف الدين لخدمة مآربه السياسية. فإبان أول أزمة اندلعت بينهما بجريرة رفض إردوغان تعيين رئيس الوزراء الدنماركى الأسبق أندرس راسموسن أمينا عاما للحلف الأطلسى، جراء عدم استجابته لطلب تركى بعدم نشر الصحف الدنماركية عام 2005 رسوما مسيئة للنبى محمد صلى الله عليه وسلم، لم يلبث إردوغان أن تراجع عن موقفه تجنبا للإضرار بعلاقات بلاده مع واشنطن، أو تشويه صورتها لدى الرأى العام الأمريكى، خصوصا بعدما تلقى ثمنا ملائما تمثل حينها فى تولى شخص تركى منصب نائب الأمين العام للحلف.
وفى معرض إشارته لعلاقته ببعض أفراد إدارته السابقة، كسامانثا باور، التى ألفت كتابا عن قضية الإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك العثمانيين إبان الحرب الكونية الأولى، لم يتردد أوباما فى الاعتراف باستشعاره خلال توليه الرئاسة حساسية مفرطة لدى الأتراك حيال تلك القضية الشائكة، وأنه اضطر لمراعاة ذلك الأمر أثناء التفاوض مع إردوغان بشأن ملفات شتى، كشروط الانسحاب الأمريكى من العراق، كما كان يتجنب ذكر مصطلح «الإبادة الجماعية»، خلال البيانات التى يصدرها البيت الأبيض بمناسبة الذكرى السنوية لهذه المأساة، تلافيا لاستفزاز الأتراك، وذلك رغم اعتراف الكونجرس بتلك الإبادة عبر قرارين أصدرهما مجلس النواب عامى 1975 و1984، فضلا عن وعود أوباما نفسه للوبى الأرمنى أثناء حملتيه الرئاسيتين بالاعتراف بإبادة الأرمن فور ولوجه المكتب البيضاوى، لكنه اكتفى عام 2014 باعتبارها واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، غير أنه لم يجد اليوم أية غضاضة فى أن يذكر مصطلح «إبادة الأرمن»، فى مذكراته وكأنه ينشد تصحيح موقف سابق بأثر رجعى بعدما تحرر من قيود الرئاسة وحساباتها المعقدة.
هكذا إذن انحاز أوباما إلى المدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية، حينما تحاشى الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن طيلة مدتيه الرئاسيتين، بينما لم يتورع عن الإقرار بها بعد مغادرة البيت الأبيض، حماية للمصالح الأمريكية، التى أكد فى مؤلفه أنها مرجعية السياسة الأمريكية حيال أنقرة. فلا تزال واشنطن حريصة، أيما حرص، على منع تركيا من مجافاة الغرب والارتماء فى أحضان روسيا والصين وإيران. وربما تراءى لأوباما، كما سابقيه، أن وقع اعتراف البيت الأبيض بإبادة الأرمن على أنقرة، ربما يتجاوز بمراحل أصداء رفضه تسليمها المعارض التركى فتح الله كولن، أو إغداق واشنطن الدعم لأكراد سوريا، أو مواصلة تجميدها تسليم الأتراك مقاتلات إف 35.
لما كانت إرهاصات أولية عدة، على شاكلة تفكير بايدن فى الاستعانة بأوباما ضمن طاقم إدارته الجديدة، تشى بإمكانية مضى الرئيس المنتخب على الدرب الديمقراطى الأوبامى فى غير موضع، أو عدم الإمعان فى النأى عنه على الأقل، تبقى الرسائل المهمة المنبعثة من مذكرات أوباما فى اتجاهات شتى، بمثابة إشارات موحية فيما يخص التوجهات العامة المرتقبة للإدارة الأمريكية الجديدة، لاسيما تلك المتعلقة بتركيا ورئيسها.