فاروق شوشة... و«شريط الذكريات!»
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 23 نوفمبر 2024 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
(1)
لم أكن أتوقع الاستجابة العالية بل الكبيرة والصادقة لمقالى عن الفنانة «جاذبية سرى» على ماسبيرو زمان، المنشور الأسبوع الماضى! فما كنت أتصور أن هناك كثيرًا من القراء والمتابعين يمكن أن يشدهم الحديث عن الفن التشكيلى أو فن التصوير أو أحد أعلام هذا الفن، لكن الحقيقة الذى حدث عكس ذلك تمامًا، بل زاد عليه أيضا الإشارة إلى قناة «ماسبيرو زمان» ومباهج وكنوز وروائع أيام زمان، فتضاعف الحنين واتسعت دوائر القراءة والاستجابة والرضا معا!
ولفتنى أن معظم ما وصلنى من رسائل أو تعليقات على صفحتى الشخصية أو غيرها توقف عند برنامج «شريط الذكريات» للراحل الكبير فاروق شوشة، والتقدير الكبير لهذا البرنامج وما حفظ لنا من لقاءات وأحاديث مع قمم مصر الثقافية والمعرفية، مع أعظم من أنجبت مصر فى القرن العشرين من شعراء وأدباء ورسامين ومبدعين ومفكرين؛ إنهم ثروة مصر التى لا تقدر بمال ولا ذهب ولا أى ثروة فى الدنيا!
(2)
منذ منتصف الخمسينيات، أصبح فاروق شوشة واحدًا من النجوم البازغة بقوة فى سماء حياتنا الأدبية والثقافية، فترة كان النشاط الثقافى فيها متوهجا مزدحما بالأسماء المبدعة والمتفوقة فى كل المجالات، كانوا يكتبون ويبدعون بذوب قلوبهم ويسكبون مشاعرهم الحارة الصادقة على معاناتهم الإنسانية وتساؤلاتهم الوجودية، وبحثهم المعرفى والجمالى المحموم.
وعبر أثير الإذاعة المصرية انطلق صوت شوشة يصدح بجمال لغتنا العربية؛ ذلك البرنامج المدوى الذى اكتسب شهرته من المحيط إلى الخليج، ينتظره كل عشاق العربية والباحثين عن جماليات الضاد من أبناء أجيال مختلفة رأوا فيه صوتهم، وأنصتوا من خلاله لهمس وجهر لغتهم الجميلة، وما تحويه من كنوز ودرر.
عندما التحق فاروق شوشة بالإذاعة، كانت نقلة كبيرة، وقد بدأ ينخرط فى خضم الحياة الأدبية، وقد استغل عمله بالإذاعة، (ثم بالتلفزيون بعد ذلك)، فى جعلهما منارة ثقافية حقيقية ووسيطا تثقيفيا بامتياز، وصارا معًا منصة إطلاق لنشاط ثقافى محموم ومكثف من خلال برامجه الثقافية التى كان يقدمها، مثل (لغتنا الجميلة)، و(مع النقاد)، و(أمسية ثقافية)، و(شريط الذكريات) الذى نتوقف عنده اليوم، كما أتاح له هذا العمل أن يوثق صلاته بأعلام الأدب والفكر لا فى مصر وحدها بل فى العالم العربى على امتداده، إذ جعل من البرامج التى يقدمها نوافذ يطل منها هؤلاء الأعلام على جماهير المثقفين فى الوطن العربى كله.
من بين برامجه الثقافية المعتبرة أتوقف قليلًا أمام برنامجه (شريط الذكريات) الذى ارتبط ارتباطا وثيقا بما تبقى لمصر من ثروتها البشرية، وقوتها الناعمة، فقد استضاف فيه العديد من نجوم الفن والأدب والثقافة والفكر، وكما ذكرت فى المقال الماضى، خصص واحدة من حلقات هذا البرنامج لمحاورة الفنانة الكبيرة «جاذبية سرى» وقد شاركها الحديث الناقد الراحل لويس عوض.
(3)
فى حلقةٍ أخرى من برنامجه «شريط الذكريات»، يستضيف فاروق شوشة العلّامة الدكتور محمود على مكى والدكتور حسين مؤنس، ويدور حديث رائع بل فائق الروعة عن الأندلس تاريخا وحضارة وثقافة.. ستتحدث زوجة الدكتور مؤنس «السويسرية» بعربية مدهشة، وابنته د. منى أستاذة الأدب الإنجليزى بكلية الآداب، وكيف أدركت أهمية وقيمة أن تتحدث لغة أجنبية أو أكثر جنبًا إلى جنب اللغة الأم (لا غنى عنها).. تعلم اللغات وما أدراك ما اللغات! كان الدكتور مؤنس يجيد أربع لغات أجنبية بطلاقة مدهشة غير العربية طبعًا.
أما أستاذنا الجليل الراحل محمود على مكى، فكان حُجة فى العربية والإسبانية على السواء، وكان مضرب الأمثال فى كل ما تصدى له من درس وبحث؛ إجادةً ودقةً وعمقًا واستيفاءً وحسن عرضٍ.. فى الأدب وتاريخه ونقده، الأدب المقارن، تحقيق التراث، الترجمة، التاريخ والحضارة، الدراسات الإسلامية، تراثا ومعاصرة، شىء معجز ومذهل..
(3)
وأستعرض بعض الأسماء الأخرى التى استضافها فاروق شوشة فى «شريط الذكريات»:
الأديب رهيف الحس والأسلوب يحيى حقى، متعدد المواهب والكاريزما الفنية صلاح جاهين، بنت الشاطئ الأستاذة الجليلة الدكتورة عائشة عبد الرحمن، والأديب المتدفق صاحب رواية الأرض عبد الرحمن الشرقاوى.. ولا أعلم كم من شخصيات أخرى قد استضافها البرنامج، من صفوة العقول المصرية ومبدعى مصر الكبار وصناع قوتها الناعمة، وآسف أن أقول «خسارة وألف خسارة» ألا يتم توثيق هذه الحلقات، وأرشفتها وإتاحة بيان كامل عنها منذ الحلقة الأولى، وحتى الحلقة الأخيرة، كما آسف لغياب مشروع قومى لاستنقاذ هذه الثروة البصرية المرئية النادرة (ومن قبلها السمعية من تراث الإذاعة المصرية) بجمعها أولًا (أو بالأحرى جمع ما تبقى منها!) وتصنيفها وترميم ما يحتاج إلى الترميم منها، ثم وضع خطة لحفظ الأصول وفق أحدث نظم الحفظ والصون والأرشفة، ثم إتاحتها بعد ذلك بكافة سبل الإتاحة والإنتاج الفنى والتسويق والدعاية.. إلخ.
تخيلوا حضراتكم تلك ثروتنا الفكرية والثقافية والإبداعية التى لم يُلتفت إليها، ولا توضع فى دائرة الاهتمام والضوء منذ عقود طويلة، تخيلوا كم سنجنى (أقصد هنا الأرباح المعرفية الدائمة وليس أرباح النقود والمكسب والخسارة!) بإتمام مشروع مثل هذا!