لنسقطها حجرًا حجرًا!
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 23 ديسمبر 2018 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
الحديث هناك عن سور جديد، هو رئيس أكبر وأهم بلد يتحكم فى مصائر شعوب عديدة فى العالم عبر الحروب والجيوش ساعة وعبر البضائع وثقافة الوجبات السريعة والاستهلاك ساعات.. هو يعود ليذكر العالم بذاك السور فى تلك المدينة العريقة.. كيف لك أن تدخل برلين دون أن تزور «checkpoint Charlie» وهى نقطة العبور عند جدار برلين الذى كان بين شرقها وغربها خلال الحرب الباردة فى الفترة من 1947 إلى 1991.
هذه النقطة الآن هى مزار للسياح والزائرين لمدينة برلين وحولهم تغيرت كثير من الملامح إلا بعض الصور هنا وهناك لما كان عليه الوضع..
***
نقطة العبور هذه تحولت مع الزمن رمزا للفصل بجميع أشكاله وأنواعه وفى كل مكان وربما تأخذ منها العبرة للفصل بين الشعوب، بين البشر، بين الدول، للحدود المصطنعة التى رسمت كلها بكثير من دماء الأبرياء أو بعصاة المستعمر.. فى تلك الليلة شديدة البرودة ومع انتهاء الاجتماعات المطولة التى أخذت الفريق العامل من طرف المدينة لطرفها الآخر، أصرت تلك المجموعة على زيارة نقطة عبور تشارلى فكان إن وصلت وبعض الثلج يتساقط هنا وهناك فى ظلمات ليلة شتوية شديدة القساوة.. تخيلت أشباح العابرين من هناك تخرج من خلف الجدار تزحف من خلال فتحة هنا أو هناك تسير وكأنها تتطلع إلى بعض حرية قد تكون رحلة أو حنينا لحبيب أو قريبا على الجهة الأخرى من السور..
***
فى ليلة 9 نوفمبر 1989 عندما بدأت عملية هدم ذاك السور ومعه إسدال الستارة على مرحلة من التاريخ الحديث تصور الكثيرون حينها أن بعض الحلم يبرز من خلال محطات التلفزة وراح آخرون يتساءلون هل هذه حقيقة أم محض خيال!
سقطت الأسوار بعدها أو هكذا خُيل لمن يكتبون التاريخ أحيانا بكثير من المصداقية والموضوعية وكثير بما يمليه عليهم أصحاب القرار أو كما رأوا هم التاريخ من خلال عدستهم الضيقة جدا.. قالوا جميعا هذه نهاية للأسوار العازلة على كل المستويات بين المدن والأحياء والبلدان وبين البشر أيضا..
***
منذ أشهر وقف رئيس تلك البلد أمام نماذج لجدران مختلفة ليختار من بينها الأنسب و«الأجمل» ليضعه حاجزا منيعا بين بلاده والمكسيك.. قال إنه يبنيه لأنه يحمى بلاده من القتلة والمجرمين وتجار المخدرات القادمين من الجنوب.. وكرر أن الجدار سيكون جميلا وسيزيد المدينة جمالا ولن يتسبب فى تشويهها! ليس هو الوحيد الذى بنى جدارا فى القرن الحالى فقد سبقته تلك التى تدعى الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط، تلك التى استحقت لقب آخر نماذج الفصل العنصرى.. راح الجدار يتلوى كالأفعى بين خاصرة بيوت الفلسطينيين، يفصل الأم عن أبنائها والأطفال عن مدارسهم والعمال عن أماكن عملهم والمزارعين عن حقول زيتونهم التى تقتلعها جرافاتهم كل يوم.. كيف يجملون الأسوار؟
***
فيما هم يبنون أسوارهم الأسمنتية العالية ويعزلون شعوبهم عن شعوب أخرى كى لا تلوثهم، نقوم نحن ببناء الأسوار الزجاجية، أسوار لا لون لها سوى الكراهية بين الأخ وأخيه ومواطن وآخر وبشر وبشر آخر.. أسوار تعلو كلما اعتلت المنابر الأصوات القبيحة التى لا تعرف الجمال ولا المحبة ولا الرحمة ولا أن البشر قد خلقوا متساويين «كأسنان المشط» وأنهم «ولدتهم أمهاتهم أحرارا» فيما هم يحولونهم إلى أشباه عبيد..
***
عند نقطة عبور تشارلى والأشباح تزحف فى الأفق البعيد والثلوج تتساقط لا يستطيع المرء إلا أن يتمنى أن تعاد صور أولئك الذين حملوا المعاول لإسقاط ذاك الجدار بأيديهم حجرا حجرا ووضعوا تلك الأحجار رمزا لسقوط ونهاية مرحلة من التاريخ، لم يدركوا أنها ستعود سريعا وأن أشباح الجدار التى ماتت ملتصقة به أو محاولة تسلقه لا تزال تطارد الكثيرين، وآخرون لا يعرفون إلا العزلة فلن يعرفوا سوى بناء مزيد من الجدران والحواجز.. مزيد من القبح والكراهية رغم محاولاتهم إطلاق تسميات رقيقة ورومانسية أحيانا عليها كالوطن والمواطنة! أو كحماية الوطن ونقاء العرق حيث يبدو الآخر حتى لو كان جارى أو أخى أو صديق الطفولة أو زميل العمل، هو الكارثه لهذا الوطن لأنه لا يشبهنى فى لون البشرة أو الديانة أو الطائفة.. مرحى لكثير من المعاول التى لا تكل من هدم الجدران واحد خلف الآخر حتى آخر حجر أو تغريدة كراهية....