انتفضت روسيا تحتفل. انعقد مجلس الدوما على أصوات فتح زجاجات الشمبانيا الفاخرة وصيحات الابتهاج وهتاف المتحمسين. دارت كئوس أخرى فى اجتماعات لمستشارين فى الكرملين. عمت الفرحة فى كل مكان وجد به مسئولون ورجال مخابرات وخبراء روس فى فنون التجسس الإلكترونى فى اللحظة التى نقلت فيه وكالات الأنباء ووسائط التواصل الاجتماعى نبأ إعلان فوز المرشح دونالد ترامب بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
***
لم تدم طويلا فرحة روسيا. كان المنتظر فى موسكو أن ينتبه المسئولون الأمريكيون إلى أن وعود المرشح ترامب فى الحملة الانتخابية يجب أن تحظى باهتمام الإدارة القائمة، إدارة الرئيس باراك أوباما، خلال الأسابيع القليلة الفاصلة بين الأسبوع الأول من نوفمبر موعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية والأسبوع الأخير من يناير موعد تتويج الرئيس الجديد، فلا تقرر سياسات أو تقترح تشريعات تتناقض وجوهر وعود المرشح الرئاسى. اتضح لى فى وقتها مدى الكره الذى عشعش فى أعماق المسئولين فى نظام الرئيس بوتين.
كان ظنى أن الطرفين يأملان فى تحسين العلاقات بين البلدين وطى صفحة التوتر التى شابتها منذ اليوم الذى تدخلت فيه روسيا فى شئون أوكرانيا بوسائل مختلفة من بينها العنف المسلح والتخريب بالدبلوماسية ونشر الفوضى باستخدام الصعاليك والمجرمين. خاب ظنى بعد تفاؤل. تفاءلت منذ أعلن الرئيس أوباما عن نيته عمل «إعادة صياغة وترتيب» فى العلاقات الأمريكية الروسية، بمعنى استعداده لتجاوز التوتر ووقف التدهور والبدء من جديد. ثم خاب الظن عندما فاجأ أوباما الرأى العام الغربى بالموافقة على قرار الكونجرس الأمريكى زيادة العقوبات المفروضة على روسيا منذ احتلت شبه جزيرة القرم وأعادت ضمها إلى الاتحاد الروسى.
***
استاءت موسكو بشدة من تشديد العقوبات على روسيا قبل أيام من استلام الرئيس الذى تفضله القيادة الروسية. لم تنقل الوكالات وقتها بالدقة الكافية والصراحة اللازمة حال الغضب الذى ساد دهاليز السلطة فى أمريكا، وبخاصة قيادات الحزب الديموقراطى، نتيجة ما تسرب من معلومات عن اكتشاف أجهزة الأمن والاستخبارات الأمريكية عمليات تدخل روسية فى الانتخابات الرئاسية ربما ساهمت فى فوز المرشح ترامب على السيدة هيلارى كلينتون. كانت واشنطن الرسمية وبخاصة السرية تغلى بالغضب. بدأ الغليان فى الكونجرس قبل تتويج ترامب رئيسا واستمر بعدها ساحبا من الرئيس الجديد بعض سلطاته التنفيذية بما سمح للكونجرس التعجيل بتشديد العقوبات على روسيا. كانت موسكو تنتظر من أمريكا رفع العقوبات فور انتقال الحكم من أوباما إلى ترامب فإذا بالصدمة تنتظرها. هذه الصدمة دفعت بميدفيديف رئيس وزراء روسيا إلى الإدلاء بتصريح غريب وغير لائق دبلوماسيا.. قال ما معناه إن الرئيس ترامب رجل ضعيف لأنه سلم الكونجرس بعض سلطاته التنفيذية فأصدر قراره المعادى لروسيا.
***
واقع الأمر هو أن الكرملين والأجهزة الاستخباراتية الروسية التى انتظرت سقوطا رهيبا للديموقراطية كنظام حكم فى العالم الغربى خاب أملها. لا جدال فى أن الديموقراطية الغربية كما هى مطبقة فى دول أوروبا الغربية وفى دول أخرى خارج الغرب أصيبت بضرر نتيجة الحرب التى شنتها الأجهزة الروسية ولكنه ليس الضرر الذى يمكن أن يصيب الديموقراطية فى مقتل أو يقصم ظهرها. الخاسر الأكبر فى هذه الحرب الغريبة الناشبة بين أجهزة روسية وأيديولوجية غربية كان ولا يزال العلاقات الطيبة بين الطرفين. الاحتمال كبير جدا بأن تشهد السنوات القادمة تدهورا أشد وأخطر فى العلاقات بين الغرب عموما من جانب وروسيا من جانب آخر.
من تداعيات هذا الوضع خلال العام الأول من حكم الرئيس ترامب أن فقدت روسيا أرضا كانت تملكها أو تستخدمها فى سان فرانسيسكو عندما قررت السلطات الأمريكية إغلاق القنصلية الروسية هناك. من التداعيات أيضا أن دبلوماسيين روس طردوا من مساكنهم فى كل من واشنطن ونيويورك، وأن السفير الروسى صاحب الخبرة والتجارب العميقة فى واشنطن تقرر سحبه وتعيين سفير جديد بدون أى خبرة فى العمل الدبلوماسى فى أمريكا. لاحظنا أيضا أن اعتقال اثنين من أهم العملاء فى جهاز الاستخبارات الروسية فى آخر أيام أوباما أعقبه سحب عدد كبير من الروس العاملين فى أمريكا وهو الأمر الذى أضعف شبكة التجسس الروسية وكاد يتسبب فى شلها شللا لم تعوضه حتى الآن.
تردد فيما بعد أن الكرملين لجأ فور تفكيك الشبكة الروسية العاملة فى أمريكا إلى تسريح معظم الخبراء العاملين فى قطاع التجسس الإلكترونى، وهو القطاع المشتبه أمريكيا فى أنه المسئول عن الحملة التى شنتها روسيا خلال الانتخابات الأمريكية بهدف إسقاط هيلارى كلينتون وحمل المرشح ترامب المشكوك فى ولائه للديموقراطية إلى منصب الرئيس. هى نفسها الأجهزة المتهمة على لسان الرئيس ماكرون بأنها كانت وراء الحملة الإلكترونية خلال انتخابات الرئاسة الفرنسية لصالح حزب السيدة لوبن وانتخابات أخرى فى عدد من الدول الأوروبية بهدف تصعيد القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة والمناهضة للاتحاد الأوروبى وإضعاف نفوذ القوى والأحزاب الديموقراطية.
يقال الآن إن العدد الأكبر من المسئولين عن إدارة أجهزة التجسس الإلكترونى، أو تزييف مئات الألوف من الرسائل الإلكترونية وتسريبها إلى الساحات الانتخابية فى العالم الغربى، هؤلاء عزلوا من مناصبهم وألحقوا بوظائف «مجهولة»، وأن عددا آخر سرح نهائيا ولعلهم معاقبون لفشلهم فى حماية أسرار مهمتهم أو لعلهم ضحايا قرار صدر بإخفاء جميع معالم هذه الحملة التى أخذت بالفعل شكل الحرب العالمية وكادت تهدد السلام العالمى. المتوقع غالبا أن يزداد الوضع الدولى توترا فى حال تطورت التحقيقات الجارية فى الكونجرس الأمريكى وأجهزة العدالة الأمريكية نحو الأسوأ. يتردد أيضا، ولا سبيل أمامنا للتأكد، أن بعض هؤلاء المتخصصين فى جاسوسية الحملات الإلكترونية ألحقوا بمكاتب فى الكرملين ضمانا لسلامتهم أو حرصا عليهم للحاجة إلى خبراتهم لو تقرر الاستمرار فى هذه الحرب ضد الغرب ودول أخرى خارج أوروبا وأمريكا.
***
لو صح احتمال سحب بعض خبراء التجسس الإلكترونى، الحرب السيبرانية، وضمهم لموظفى الكرملين لأصبح يقينا ما سبق وتردد عن أن الرئيس بوتين يعمل على جمع أهم الأجهزة العاملة فى تنفيذ السياسة الخارجية الروسية لتكون تحت الإشراف المباشر لمكتبه الرئاسى فى الكرملين. نعرف أن دولا أخرى تجرب الآن هذا الأسلوب فى إدارة العلاقات الخارجية للدولة. الرئيس ترامب يجربه ولكن بما يتلاءم والنظام المؤسسى الذى تقوم عليه حكومة الولايات المتحدة. قام مثلا بتقزيم وزارة الخارجية المؤسسة الأولى والأهم فى التخطيط للسياسة الخارجية وتنفيذها برفضه ملء المناصب الكبرى التى خلت ووقف التعيين فى وظائف أصغر. راح أيضا ينافسها بتغريداته الصباحية. هذه التغريدات التى صارت بالنسبة للمسئولين فى شتى أنحاء العالم أهم وسيلة متاحة للتعرف على سياسات أمريكا الخارجية. هى الآن أسبق وأهم من السفير الأمريكى المقيم، وهى أسرع وأقدر وأقوى من تصريحات وزير الخارجية ومساعديه. بالإضافة إلى إضعاف مكانة الدبلوماسية وتخفيض دورها ما زال الرئيس ترامب يحاول تطويع جهازى الأمن الرئيسيين، التحقيقات الفيدرالية والاستخبارات الأمريكية، وإخضاعهما للبيت الأبيض. أعرف أن هذا التطور أصبح حقيقة تسود فى عدد متزايد من الدول. أتصور أيضا أننا فى مصر نجتهد فى الاتجاه ذاته.
***
للرئيس بوتين أهداف رئيسة يسعى لتحقيقها، أهمها بث الوقيعة بين دول الغرب ودعم الدول والأحزاب والحركات المناهضة للديموقراطية وجمعها إن أمكن فى جبهة أو حلف معاد للغرب الديموقراطى. ولا جدال فى أنه نجح إلى حد كبير فى تحقيق هذا الهدف تساعده بالتأكيد ظروف إقليمية ومحلية عديدة.. تساعده علاقات غير جيدة بين إدارة ترامب ودول أوروبا، يساعده خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، والأزمة السياسية فى ألمانيا والفجوة التى خلفها غياب المستشارة ميركيل وفشل الرئيس ماكرون فى تعويضها.. سنوات صعبة تنتظر الغرب.