انتهت العولمة .. أم انتكست؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 مارس 2009 - 6:46 م
بتوقيت القاهرة
شتان ما بين الأجواء الملتهبة والمضطربة التي عقدت في ظلها الدورات السابقة لمؤتمر ميونيخ للأمن وبين الجو الذي أحاط بالدورة الأخيرة التي عقدت الأسبوع الماضي. في الدورات السابقة كان السباق بين وفد الولايات المتحدة من ناحية ووفد روسيا من ناحية أخرى جار لإثبات قدرة طرف على ترسيخ هزيمة الطرف الآخر وقدرة الطرف الآخر على رفض الهزيمة.
كان هناك أيضا الركض الأوروبي وراء أمريكا لتهدئة انفعالها وخفض درجة العنف في تهديداتها لإيران. في الحالتين كانت أمريكا مندفعة بكل قوتها لتصعيد استعداداتها لفرض حصار أشمل وأشد إحكاماً على روسيا باستخدام حجة التهديد النووي الإيراني للنفط العربي والعالم بأسره.
كنا نتحدث، وكان البعض في أوروبا يتحدث، عن أمريكا ذات الرأسين، رأس تطل منها عينان خافت بريقهما وزائغ بصرهما، ورأس بعينين تشعان عنفا وتطلقان شررا وغطرسة. كنا وكانوا في أوروبا وفي الصين وكان قادة الإرهاب والمقاومة وحركات الاحتجاج في كافة أرجاء العالم يدركون خطورة ما يمكن أن يصدر عن كائن عملاق برأسين إلى هذا الحد متباعدين وأحيانا متناقضان.
كل هؤلاء كانوا يعرفون بدرجات متفاوتة من التصديق أن اقتصاد أمريكا مقبل على عهد المشكلات المتراصة. كانت المؤشرات واضحة وبعضها صارم ولكن السمعة الطويلة الأمد لمرونة النظام الأمريكي وسرعته في التأقلم قللت في ذهن الرأي العام خطورة الأبعاد الحقيقة لهذه المشكلات.
قلل أيضاً من خطورتها الأمل المتجدد دائماً في أن تكون المشكلات الاقتصادية والمالية المتلاحقة ظواهر عابرة كإعصار كاترينا والفشل في العراق، أي أنها ومهما بلغت خسائرها لن تترك جروحا غائرة في الاقتصاد الأمريكي.
تجاهل الناس حقيقة أنه كانت هناك مشكلات أخرى تنخر في الجذع الأمريكي تحميها مصالح مالية وإعلامية هائلة وعملاء أو وكلاء لهذه المصالح في النخبة الحاكمة كما في الكونجرس. من هذه المشكلات مشكلات اجتماعية مثل الفجوة المتزايدة الاتساع بين شريحة متميزة ومسيطرة بجشع رهيب على الحياة المالية والسياسية وغالبية الشعب الأمريكي المتراجعة أصوله المادية وموارد دخله الحقيقية، ومشكلة انهيار منظومة الأخلاق، وهى المنظومة التي كانت في وقت من الأوقات ركنا عتيدا من أركان تحقيق الحلم الأمريكي الشهير، ومشكلة انهيار الجسور والطرق السريعة وسوء أحوال قطاعات أخرى في البنية التحتية وتهالكها.
وفي العالم الخارجي حاول مبعوثون أمريكيون كثيرون، وفي مقدمهم دبلوماسيون بدرجات ومهام مختلفة إنكار وجود رأس لأمريكا منكسرة أو متعبة فبالغوا جميعاً في التعامل بالرأس الثانية، رأس العنف والعدوان والحصار والتهديد والابتزاز والغزو والغطرسة والعنصرية.
آخرون أصروا على إنكار وجود مشكلات وتجاهلوا الصورة التي يراها العالم. لذلك لم أخف إعجابي ببراعة أوباما وبالانجاز الذي حققه في حملة انتخاباته حين ركز بشدة على هذا الجانب من شخصية أمريكا وتحدث بشجاعة عن حقيقة ما يعاني منه المجتمع الأمريكي وانعكاس مشكلات أمريكا في العالم الخارجي. ولم يتوقف السياسيون في أمريكا عن الإنكار إلا عندما انكشفت الأزمة المالية وبخاصة عقب سقوط مؤسسة ليمان المصرفية.
منذ ذلك الحين لم يعد الإنكار بديلا مطروحا رغم ضغوط شديدة من مصالح متعددة وألقى باراك بكل ثقله الانتخابي وبشعبيته الجارفة وراء هدف تهذيب الرأس الشريرة وشفاء عللها. كان خياره واضحا، ولكن كانت الطريق ملبدة بالصخور والأشواك. ففي كل خطوة خطاها اوباما نحو الإصلاح شعر الأمريكيون وشعرنا، وقادة التبشير الأيديولوجي بيننا، بأن كثيراً مما اعتدنا عليه واعتقد فيه بعضنا حتى خرج إلى الناس يبشر به صار منذ السقوط وبتأثير أفكار أوباما التصحيحية مهدداً في صدقيته وفي أدائه.
حدث شيء مماثل في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وتحول اقتصادات الدول الاشتراكية ومجتمعاتها إلى اقتصاد السوق واستبدال بقرة مقدسة بأخرى أيضاً مقدسة. استبدلوا بقرة دور الدولة ببقرة آليات السوق. إن بعضا مما يفعله باراك اوباما يشبه بعض ما فعله جورباتشوف وفي عدد من جوانبه لا يقل خطورة لا لشيء إلا لأنه يمس الأسطورة ويشكك في أدائها ويهز أركانها ويهدد صدقية دعاتها ومدارسها وتلاميذها.
لقد وقع المس بالعولمة، قدس أقداس النظام الرأسمالي العالمي في آخر مرحلة من مراحل تطوره ثم تجاوز إلى التطاول ومن التطاول إلى تهديد الأسس. عاد مفكرون وسياسيون يطرحون شعار "أشتري البضاعة الأمريكية" في دعوة صريحة وصارخة للعودة إلى نظام الحماية وسياسات "القومية الاقتصادية"، النقيض الأعظم لمبدأ حرية التجارة. عادوا يطرحون قضية طرد العمال الأوروبيين من سوق العمل البريطاني في تهديد واضح لأحد أهم أحلام دعاة العولمة وبالأخص لأحد أهم دعائم الوحدة الأوروبية.
رأينا الأسواق وكيف انكمشت على مستهلكي الداخل والاستثمارات وكيف جفت منابعها لأن المدخرين فقدوا الثقة في العولمة الاقتصادية بعد أن عاشوا أياما كئيبة سقطت خلالها العولمة المالية في وحل فساد عالمي لا سابقة لحجمه أو أبعاده. ولا أظن أن الذاكرة ستخون البعض منا الذي تابع لمدة غير قصيرة ممارسات عبرت بدقة عن مرحلة في التاريخ الإنساني تدهورت فيها منظومة الأخلاق وتشوهت العلاقات بين الرجال والنساء وبين الآباء والأبناء وفسد أهل السياسة واستؤنفت حروب الاستعمار تحت مسمى صدامات الحضارة والمذاهب والأعراق.
الآن نستطيع أن نفهم لماذا صارت العولمة عند بعض الناس في دول الغرب والشرق كذبة روجت لها كوكبة من المفكرين والإعلاميين أو بالغت في تصوير ايجابياتها والتعتيم على سلبياتها، وصارت عند بعض آخر علامة بارزة من علامات آخر مراحل الرأسمالية وصارت عند بعض ثالث عقيدة حان أوان إصلاحها وتهذيبها.
أنظر حولي فأرى كثيرين بينهم مسئولون وقادة ومفكرون وكلهم في وضع انتظار شئ ما أو بالأحرى في انتظار إجابة على سؤال محير"هل اقتربنا من نهاية طريق لا نري عند الأفق طريقا بديلة له أم نقف عند مفترق طرق .. طرقنا بعضها ولم نطرق أكثرها؟