حتى لا يكون الصيف مظلمًا
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 24 مارس 2025 - 5:30 م
بتوقيت القاهرة
الإشكالية الموسمية التى تواجهها وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة مدارها علاقتها المتشابكة والمعقّدة مع وزارة البترول والثروة المعدنية، تلك التى تمثّل فيها وزارة البترول جانب العرض، وتستحوذ الكهرباء على نصيب الأسد من استهلاك المنتج الكربونى. ولمّا كان الغاز الطبيعى هو المنتج الأهم لتشغيل محطات الطاقة الحرارية، والتى تنتج نحو 92% من إنتاج الكهرباء فى مصر، خاصة مع تبنّى مصر استراتيجية منخفضة البصمة الكربونية، بتخفيض الاعتماد على المازوت (الوقود الثقيل) لصالح الغاز الطبيعى والمصادر المتجددة والنظيفة، وذلك أيضًا فى سبيل رفع كفاءة استخدام الوقود، فإن أى تراجع فى إنتاج الغاز الطبيعى أو استيراده مسالًا بغرض إعادة التغويز، يؤثر بالسلب على توقعات إنتاج الكهرباء، خاصة خلال أشهر الصيف التى يرتفع فيها الاستهلاك بشكل كبير.
وإذا كان متوسط الاستهلاك اليومى من الغاز الطبيعى فى أشهر صيف عام 2024 قد بلغ تقريبًا 6,5 مليار قدم مكعب/يوم، فإن هذا الاستهلاك مرشّح للارتفاع إلى نحو 7 مليارات قدم مكعّب/يوم، علمًا بأن هذا التقدير يمكن مراجعته ارتفاعًا مع زيادة تقديرات نمو الناتج المحلى الإجمالى للعام المالى الجارى 2024/2025، نظرًا للارتباط الوثيق بين معدلات النمو واستهلاك مختلف منتجات الطاقة سواء للقطاع الصناعى أو التجارى أو المنزلى. هذا فى حين بلغ إنتاج الغاز الطبيعى فى صيف عام 2024 ما يدور حول 4,6 مليار قدم مكعّب/يوم بما يعنى أن العجز بين الإنتاج والاستهلاك كان لا بد من تعويضه عبر التغويز، وغاز الخطوط المستوردين بتكلفة متوسطة أكبر كثيرًا من تكلفة الإنتاج بالطبع. لكن الفجوة المذكورة مرشحة للاتساع فى صيف 2025 لسببين، أولهما زيادة الطلب (كما سبق أن أشرنا)، وثانيهما انخفاض الإنتاج المحلى إلى ما يقل عن 4,5 مليار متر مكعب/يوم لأسباب تتعلّق بأزمة بدت فى طريقها للحل وهى المتعلقة بتأخر مستحقات الشريك الأجنبى والتى انعكست على عزوفه جزئيًا عن الإنتاج، وبعد الالتزام بسداد وجدولة المستحقات (بعد حل أزمة العملة الصعبة بشكل كبير) باتت العودة إلى معدلات الحفر الطبيعية مقيدة بعنصر الزمن، لأن عملية حفر آبار جديدة فى الحقول المهمة (وفى مقدمتها ظهر) تستغرق فترة قد تصل إلى 4 سنوات.
مما تقدّم يبدو جليًا أن الأجل القصير شديد التقييد لصانع السياسات فى مجال الطاقة، ويجعل وزارة الكهرباء ترمى بكامل متطلبات الوفاء باحتياجات الاستهلاك الصيفى على منتَج الغاز الطبيعى المتوافر محليًا أو المستورد من الخارج. ولأننى قد مللت من تكرار أهمية الإشارة إلى تخطيط الطاقة إنتاجًا واستهلاكًا، وما يمكن أن تحدثه من توازن مستدام بين الاستلاك والإنتاج، فإن هناك عددًا من التوجهات المحددة التى يمكن أن تؤتى ثمارها فى الآجال المختلفة، والتى يتّسع هذا المقال لبعضها.
• • •
تواجه الدول التى تعانى من استهلاك مرتفع للطاقة خلال فصول معينة من السنة تحديات كبيرة مرتبطة بالموسمية، وتسعى لتفادى انقطاع الكهرباء من خلال مجموعة من الاستراتيجيات تشمل: تحديث شبكة الكهرباء، وتخزين الطاقة، وتحسين كفاءة إدارة جانب الطلب، وبرامج تعزيز كفاءة الطاقة، وتنويع مصادر الطاقة. توفر تلك الاستراتيجيات رؤى قيّمة يمكن لمصر أن تستفيد منها فى مواجهة التحديات المتعلقة بالطاقة واستعداداتها لصيف 2025، الذى من المتوقع أن يشهد زيادة ملحوظة فى الطلب على الكهرباء بسبب الاحتياجات المرتفعة للتبريد.
يُعد تحديث الشبكة الكهربائية الوطنية أمرًا بالغ الأهمية لإدارة الطلب الموسمى على الطاقة بكفاءة. تسمح الشبكات الذكية المجهزة بأجهزة استشعار متقدمة ومؤتمتة بمراقبة وتحليل فورى لتحقيق توازن بين العرض والطلب. وقد ساهمت الشبكات الذكية عالميًا فى الحد من زمن انقطاع الخدمة بنسبة تصل إلى 51٪ فى دول مثل الولايات المتحدة. وإذ حققت مصر تقدمًا فى تحسين كفاءة الشبكة، فإنه ما زال أمامنا الكثير للقيام به خاصة فى محافظات الصعيد وعلى مستوى الهدر فى شبكات التوزيع. وفقًا لما هو مخطط، فمن المتوقع دعم الشبكة القومية بإضافة حوالى 4000 ميجاوات من خلال مشروعات الطاقة المتجددة بحلول صيف 2025. وقد حققت الهند تقدمًا ملحوظًا من خلال تحديث شبكتها الوطنية بتقنيات الشبكة الذكية، التى ساهمت فى تخفيض خسائر النقل والتوزيع من 21% فى عام 2001 إلى حوالى 15% فى عام 2020، ما وفّر مليارات الكيلوواط-ساعة سنويًا. وفى الولايات المتحدة، أدى نشر البنية التحتية المتقدمة للقياس (AMI) إلى تحسين إدارة الطلب على الكهرباء، ما قلل من الأحمال القصوى بنسبة 10-15% فى بعض المناطق.
• • •
تلعب أنظمة تخزين الطاقة دورًا حيويًا فى التعامل مع تقلبات الطلب، إذ تتيح أنظمة تخزين البطاريات واسعة النطاق تخزين الطاقة الزائدة خلال الفترات ذات الطلب المنخفض، وإطلاقها أثناء فترات الذروة. على سبيل المثال، تعتمد كاليفورنيا على أكثر من 4000 ميجاوات من تخزين البطاريات لدعم الشبكة خلال موجات الحر فى الصيف. بالنسبة لمصر، يمكن أن تشكل الاستثمارات فى تخزين الطاقة - سواء البطاريات أو التخزين المائى - حلًا مكملًا لمشروعات الطاقة المتجددة، وتضمن توفر إمدادات كهرباء مستقرة خلال أشهر الصيف.
كذلك تشكل برامج الاستجابة للطلب أداة فعّالة لإدارة الطلب على الطاقة خلال فترات الذروة الموسمية. تُحفّز تلك البرامج المستهلكين على تقليل أو تغيير استخدام الكهرباء خلال الفترات الحرجة لضمان استقرار الشبكة. فى اليابان، تُشجع المبادرات الأسر والشركات على الحد من استهلاك الكهرباء خلال ساعات الذروة الصيفية. بينما فى الولايات المتحدة، تقدم برامج مثل التى تديرها منظمة PJM Interconnection حوافز مالية للشركات التجارية والصناعية، للحد من استخدام الكهرباء فى أوقات الضغط على الشبكة. وقد حقّقت هذه البرامج فى عام 2022 توفيرًا قدره 20 جيجاوات من الكهرباء، وهو ما يكفى لتزويد ملايين المنازل بالطاقة.
بالنسبة لمصر، يمكن أن تكون برامج الاستجابة للطلب حلًا حيويًا. فى صيف 2025، يمكن أن تستهدف هذه المبادرات القطاعين السكنى والتجارى، إذ يتعين على شركة الكهرباء تطبيق نماذج تسعير ديناميكية، تراعى رفع الأسعار خلال فترات الذروة لتحفيز توفير الطاقة. كما يمكن أن تسهم الحملات التوعوية فى تعزيز وعى المستهلكين بسلوكيات توفير الطاقة، مثل ضبط درجات حرارة أجهزة التكييف فوق 26 درجة، أو تجنب الأنشطة التى تستهلك طاقة عالية خلال ساعات الذروة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تدعم الإعانات المستهدفة للأجهزة الموفّرة للطاقة وتقنيات المنازل الذكية الأسر فى تقليل استهلاك الطاقة.
• • •
برامج كفاءة الطاقة لا تقل أهمية فى معالجة تحديات الطاقة الموسمية. عالميًا، يعد تحسين كفاءة الطاقة واحدًا من أكثر الطرق فاعلية من حيث التكلفة لتقليل الطلب على الطاقة، وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وهناك العديد من الأمثلة التى تُظهر تأثيرها الواضح. على سبيل المثال، فى الدنمارك، ساهمت التوربينات الهوائية ذات الكفاءة العالية فى تحسين إنتاج الكهرباء بشكل كبير، حيث أصبحت طاقة الرياح تمثل أكثر من 47% من إمدادات الكهرباء فى البلاد، ما قلل الاعتماد على الوقود الأحفورى وعزز الكفاءة العامة.
وفيما يتعلق بالاستهلاك، طبّقت اليابان معايير صارمة لكفاءة الطاقة للأجهزة والمبانى، ما أدى إلى خفض استهلاك الكهرباء المنزلى بنسبة 20% على مدى العقدين الماضيين. وبالمثل، ساهمت برامج التحديث الكفء للطاقة فى المبانى السكنية والتجارية فى ألمانيا فى تقليل استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 30%، ما يُبرز الإمكانيات الكبيرة لمثل هذه المبادرات فى خفض الطلب على الكهرباء.
فى الصين، أدت إجراءات تحسين كفاءة الطاقة فى القطاعات الصناعية إلى تحسين كثافة الطاقة بنسبة 30% منذ عام 2005، مما لم يُقلل استهلاك الكهرباء فحسب، بل ساهم أيضًا فى تحقيق وفورات مالية كبيرة وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة. وبالمثل، حققت سياسات كفاءة الطاقة فى كوريا الجنوبية انخفاضًا بنسبة 15% فى استخدام الكهرباء للفرد خلال العقد الماضى.
فى هذا السياق، تهدف استراتيجية كفاءة الطاقة فى مصر 2022-2035، التى تم الإعلان عنها خلال قمة الأطراف بشرم الشيخ COP27، إلى تحقيق خفض بنسبة 10٪ فى استهلاك الطاقة بحلول عام 2027 وبنسبة 18٪ بحلول عام 2035. يتم دعم هذه الأهداف من خلال خطة عمل شاملة تشمل تعزيز تقنيات كفاءة الطاقة، تحسين ممارسات إدارة الطاقة، وتعزيز ثقافة ترشيد الطاقة فى جميع القطاعات. وفى هذا السياق شرفت بالمساعدة بمهام خبرة لصالح بنك التعمير الألمانى لتدشين وإدارة صندوق دعم كفاءة الطاقة فى مصر.
• • •
يبقى تنويع مصادر الطاقة ركيزة أساسية لإدارة ذروة الطلب الموسمية. عالميًا، أظهرت النرويج وولاية تكساس أهمية مصادر الطاقة التكميلية. تعتمد النرويج بشكل رئيس على الطاقة الكهرومائية التى توفّر المرونة، فى حين تستفيد تكساس من طاقة الرياح خلال الشتاء والطاقة الشمسية خلال الصيف. تركّز جهود مصر لتنويع مصادر الطاقة على مشروعات الطاقة المتجددة مثل مجمّع بنبان للطاقة الشمسية، ومحطة الطاقة الشمسية أبيدوس 1 فى أسوان، ومزرعة رياح جبل الزيت، ومزرعة الرياح بخليج السويس، ما يعزز مرونة البلاد فى مواجهة تقلبات الطلب الموسمية.
من ناحية أخرى تلعب مشروعات الربط الإقليمى دورًا مهمًا فى استقرار الشبكات خلال فترات الذروة. على سبيل المثال، تتيح الشبكة الكهربائية المشتركة للاتحاد الأوروبى تبادل الكهرباء بين الدول لتحقيق التوازن بين العرض والطلب. ورغم أن مصر تعمل على تطوير مشروع الربط الكهربائى مع السعودية، فإن ذروة الطلب الصيفية المشتركة تشكل تحديًا.
كاتب ومحلل اقتصادى