الرجعة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 24 مارس 2025 - 5:35 م
بتوقيت القاهرة
مع انقضاء أجله، ثم ولوجه الدار الآخرة؛ يتكرر، فى مواطن خمسة، إلحاح الإنسان على خالقه، جل وعلا، فى طلب الرجعة إلى الحياة الدنيا. فلا يتوانى عن التماس ما يوفقه إليه من عبادات، ابتغاء عفوه ورضوانه.
يتراءى أول تلك المواضع عند الاحتضار، حينما يباغته ملك الموت. فهنالك، يقول تعالى فى الآية التاسعة والتسعين من سورة المؤمنون: «حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ». وفى الآية العاشرة من سورة المنافقون: "وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِى أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ". أما ثانيها، فيحين وقت معاينة العذاب. حيث يقول تعالى فى الآية الرابعة والأربعين من سورة إبراهيم: "وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ". وثالثها، أثناء الوقوف على جهنم، ومشاهدة ما فيها من أهوال. وهنا، يقول تعالى فى الآية السابعة والعشرين من سورة الأنعام: "وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ".
إبان العرض على الله، والمثول أمامه للحساب، فى ذل وانكسار؛ يتأتى الموضع الرابع. وفى هذا، يقول، تعالى، فى الآية الثانية عشرة من سورة السجدة: "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ". وفى الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة النحل. "يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ". وفى الآية الثامنة عشرة من سورة المجادلة: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ». والمعنى: يوم تأتى كل نفس تخاصم وتحاج عن نفسها، قائلة: نفسى.. نفسى؛ تسوق الأعذار، وتتنصل من المسئولية؛ حتى أنها تحلف لله كما كانت تحلف لأوليائه فى الدنيا؛ أملا فى النجاة، معتقدة أنها على الحق. وأما الموضع الخامس والأخير، فعندما يتلظى الكافرون فى غمرات الجحيم وعذابه الأليم. وهنا، يقول تعالى فى الآية السابعة والثلاثين من سورة فاطر: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ". وفى الآية السابعة والستين بعد المائة من سورة البقرة: "وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ".
ينطوى ما ذكر آنفا على حزمة من المدركات المهمة بهذا المضمار. أولها: أن طلب الرجعة إلى الدنيا بعد مفارقتها، لا يقتصر على الكافرين فحسب، وإنما يشمل عصاة المسلمين. حيث يتعهد الكافر أن يؤمن بالله، فى حين ينشد المؤمن العاصى، الإكثار من العمل الصالح، لاسيما الإنفاق فى سبيل الله. وذلك حسبما ورد فى الآية العاشرة من سورة المنافقين: «وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين». ولقد روى، الترمذى، فى سننه عن، ابن عَبّاس، أنه قَال: «من كان له مال يُبَلِّغه حَجَّ بَيْت ربه، أَو يجب عليه فِيه زكاة، فَلم يفعل، يسأَل الرجعة عند الموْت». فقال رجل: يا ابن عباس! اتّق اللَّه؛ فَإِنما يسأل الرجعة الكفار؟، فقال: سأتلو عليك فى ذلك قرآنا؛ وقرأ الآية: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِى أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ».
كذلك، يتمنى الشهداء، على ربهم، العودة إلى الدنيا، بغرض الجهاد والاستشهاد مجددا فى سبيل الله. ففى حديث، الترمذى، عن جابِر، قَال: «لقينى رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلم، فَقَال لى: يا، جابِر، ما لى أَراك منكسرا؟! قلْت: يا رسول اللَّه اسْتُشْهِد أَبى يوم أُحد، وتَرك عيالا ودَينًا. قَال: أَفَلَا أُبشرك بما لقى اللَّهُ بِه أَباك؟ قَال: قلْت: بلى يا رسول اللَّه . قَال: ما كَلَّم اللَّه أَحدا قَط إِلَا من وراء حجاب، لكنه أحيا أَباك فَكلمه كِفَاحا. فَقَال: يَا عبدى تمَن على أُعطك. قَال: يا رب تحيينى فَأُقتل فيك ثانية. قَال،عز وجل: إِنَّه قَد سبق منى أُنهم إِلَيها لا يرجعون».
أما ثانيها، فمعرفة الإنسان لمآله وعاقبة أمره عند الاحتضار: ذلك أن نفسا لن تموت حتى تعرف، اضطرارا ويقينا، هل هى من السعداء أم الأشقياء؟ وإلا ما سألت الرجعة. وثالثها: استحالة العودة بعد الموت قبل يوم البعث. فلا أمل فى تأخير الأجل، أو عودة الموتى إلى الحياة الدنيا. ذلك أن الموت ما هو إلا انقطاع العلاقة بين الروح والجسد؛ ولا يمكن للأولى أن تعانق الأخير بعد مفارقته، إلا يوم البعث. فقد قال، تعالى، فى الآية الحادية عشرة من سورة المنافقين: "وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا». وفى الآية الخامسة والتسعين من سورة الأنبياء: «وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ». وفى الآية المائة من سورة المؤمنون: «كلَّا ۚإِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ». وفى تفسيرها، يقول، ابن كثير: كَلَّا، حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ؛ أَى: لَا نُجِيبُهُ إلى ما طلب ولا نقبل منه. و يُبيِّن الحق، سبحانه وتعالى، أنَّ أمنية الرجعة، إنما هى محض كلمةٌ جوفاءُ، وفارغة، لا معنى لها ولا حقيقة. فما هى سوى كلمة هو قائلها من فظاعة وبشاعة ما رأى عند الموت ثم الحساب. ومن ورائهم عذاب القبر، الذى يسبق العذاب الأكبر يوم القيامة. فثمة برزخ يعزل الموتى حتى يوم الحشر. أى: حجاب يحول، مرحليا، بينهم وبين آية مآلات أو ملاذات.
يكمن رابع المدركات فى زيف ادعاءات الكافرين بشأن «الرجعة الصالحة» إلى الحياة الدنيا. حيث تؤكد العدالة الإلهية كذب مزاعمهم حيال الإيمان بالله والعمل الصالح. وفى هذا، يقول تعالى فى الآية الثامنة والعشرين من سورة الأنعام: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبون». والمعنى: لو عادوا إلى الدنيا، لعكفوا على مباشرة الموبقات، التى ألفوها قبل الموت؛ من جحود آيات الله، الكفر به، والعمل بما يستجلب سخطه. ومن ثم فهم كاذبون فى قيلهم: لو رُددنا، لن نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين. لأنهم ما قالوه إلا، خشية العذاب، وليس عن إيمان يقينى بالله. وهذا يؤكد استحقاقهم للعذاب، باعتباره جزاءهم الأوفى. إذ لن يلج النار إلا من يستحقها، جراء كفره، عصيانه، أو تقصيره.
يتجلى خامس المدركات وآخرها، فى إحياء الحق، تبارك وتعالى، بعض الموتى فى الدنيا. وذلك من باب الإعجاز لنبى أو رسول. أو على سبيل الكرامات لولى من الأولياء. لإقناع البشر، أو إقامة الحجة عليهم؛ أو لإحقاق الحق وإزهاق الباطل. ومن ذلك: توبة المولى، عز وجل، على بنى إسرائيل، بإحيائه إياهم من الموت بعد معاقبتهم به. وإحياء قتيل بنى إسرائيل، لينبئ قومه عن قاتله. والذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، حذر الموت. والرجل، الذى أماته الله، قرنا، ثم أحياه، ليدرك كيفية إحياء الموتى.
فى إيضاح تلك الحالات، أورد المولى، جل شأنه، آيات متفرقات فى سورة البقرة: حيث يقول تعالى فى الآية السادسة والخمسين: «ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». وفى الآية الثانية والسبعبن: «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ». ثم فى الآية الثالثة والأربعين بعد المائتين:
« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ». وفى الآية التاسعة والخمسين بعد المائتين: «فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ».