أحداث يوم آخر
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 24 أبريل 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
كحقيبة السفر المتخمة بمحتوياتها والتى خرجت منها أحشاؤها من هنا وهناك.. كلما لملمت جزءا من فستان هنا خرجت أكمام قميص من هناك.. هكذا تخيلت نفسها فى هذه اللحظة؛ حيث تغلق فصلا طويلا مليئا بالأحداث والتفاصيل من حياتها العملية الممتدة.. كلما أغلقت جزءا منه أو مرحلة، برزت أمامها أحداث يوم آخر.. وفى زحمة الجرى لإنهاء تفاصيل الإغلاق فكما يقول أهلنا فى مصر الغالية «دخول الحمام مش زى خروجه»!
• • •
على مكتبها رزمة ملفات وأوراق كلها مطلوب تعبئتها قبل الموعد المحدد لإنهاء هذا الفصل الطويل.. وفى زوايا المكتب تراصت الصناديق، كثير من الأوراق فى زمن التواصل اللا ورقى والكتب، ورغم أنها حاولت أن تغربل ممتلكاتها الصغيرة والتى تراكمت على نحو خمس وعشرين عاما أو أكثر، إلا أنها اكتشفت أنها ما إن ترفع غرضا من الصندوق أو تترك كتابا على رف مكتبها المطل على تلك البحيرة الساحرة، إلا وتعود لتعيد وضعه فى أحد الصناديق. كررت، وكما كانت تحدث أحدا، وهى وحيدة تقف فى منتصف المكتب «ولكنها كلها تعنى الكثير لى وتحمل ذكريات قريبة إلى قلبى». وتطمئن نفسها ربما احتاجتها فى المستقبل القريب، ربما! ألن أستمر فى العمل؟ ألن يطلب منى بعضهم القيام باستشارة أو دراسة أو حضور اجتماع أو إلقاء محاضرة أو أو.. تذكرت صديقتها التى أغلقت فصلا طويلا من العمل بالمؤسسات الدولية وتقاعدت مقنعة نفسها أنها ستودع أيام العمل الطويلة وتعود لتعيش الحياة وتنفذ كل أحلامها فى تلك القائمة الطويلة التى حملتها فى شنطتها لسنين، وكلما ضاق صدرها من عدم التقدم فى العمل، فتحت الدفتر الصغير ودونت فيه أمنية جديدة ستعمل على تحقيقها أول ما تنهى عملها وتلتحق بالعالم الآخر.. ولكنها فى اليوم الأول استيقظت مذعورة فى حالة تصور أنها تأخرت على الاجتماع أو الدوام أو الدورة أو الندوة أو أو.. دقائق مضت قبل أن تتذكر أنها لم تعد موظفة عند أى أحد أو أى مؤسسة أو منظمة.. شهران مضيا وكأنهما سنون وهى تقضى معظم لحظات أيامها فى فراشها إما نائمة أو محملقة فى سقف غرفة نومها التى بدأت للمرة الأولى تلاحظ تفاصيل فيها لم تكن تعرفها.
• • •
أخذها زوجها وابنها إلى الطبيب النفسانى وجاء تشخيصه اكتئاب حاد يحدث لمعظم المتقاعدين وخاصة أولئك المدمنين أعمالهم والذين لم يكونوا موظفين بل تصوروا أنهم أصحاب قضية يدافعون تارة عن حق المرأة فى العمل ومشاركتها فى صناعة القرار أو حقوق الطفل أو حقوق العمال، وهذه فئة أخرى من البشر بدأت تنقرض أو هم وأدوها، ومحاربة الفقر والعوز ومساعدة اللاجئين واللاجئات.. طويلة هى القائمة وقليل هو الإنجاز رغم كل المتوافر والمتاح من الدعم المالى وأحيانا قليلة الدعم المعنوى!
• • •
عادت هى لتحملق فى الصناديق ومكتبها والعصافير على تلك الشجرة العجوز خلف نافذة مكتبها واللوحة التى اختارتها عندما سلموها هذا المكتب بجدرانه العارية، تلك البيضاء الباردة. قالوا لها هناك لوحات فى القبو، نعم فى قبو المؤسسة كمية من اللوحات وغيرها من الهدايا من قبل الكثير من الدول والحكومات.. فى تلك اللحظة لم تتخيل أن للوحات والتحف عمرا كما البشر، وحملت أربع لوحات كبيرة، أو طلبت المساعدة فى إرسالها إلى مكتبها وكأنها قد أحيت تلك اللوحات الفنية من موت حتمى فى مقبرة تلك المنظمة، أقصد فى قبوها!
• • •
أكثر ما أتعبها فى تلك الأيام هو نقاء بعض الزملاء حتى البكاء وهم يودعونها، وربما ما أتعبها أيضا تجاهل الكثيرين وهم فى ذلك بين مزيج من اللا مبالاة بمن يأتى ومن يرحل، فهم فى معظمهم مهتمون بمنصبهم ومراكزهم ومرتباتهم آخر الشهر وكفى.. وآخرون كانوا سعداء برحيل امرأة أخرى «لوثت» أجواءهم الذكورية التامة وخاصة أنها ملونة وليست امرأة منهم ومن البشر حاملى الدرجة الأولى أو الخمس نجوم. ألم نكتشف ذلك ونحن نتابع بخوف وقلق أحداث أوكرانيا.. ألم نكتشف أن دروسهم فى الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة ما هى إلا للتصدير فقط وللتسويق لدى أولئك البشر ناقصى العقل والفهم ومختلفى اللون والعرق والجنس.
إنه يوم آخر بأحداث جديدة جدا..