الصين تواصل الصعود على عكس أمريكا
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 24 يونيو 2009 - 10:46 م
بتوقيت القاهرة
كيف سيكون نوع الهيمنة وشكلها عندما تصبح الصين الدولة الأقوى سياسيا فى العالم؟ نعم، لم يعد عقلاء السياسة من شبان أو شيوخ يترددون فى طرح هذا السؤال ولا يتهمهم أحد بالغوغائية أو الراديكالية فى التفكير. وقد دار بالفعل مؤخرا نقاش حول الموضوع شارك فيه متخصصون فى الشأن الصينى والشئون الدولية بمناسبة انعقاد قمة الدول الصاعدة BRIC وفى أعقاب موقف الصين من أحداث إيران ومن النشاط النووى لكوريا الشمالية.
دفعنا إلى طرق هذا الباب من أبواب المستقبل ما يثار حول الفرق الشاسع فى أداء كل من الصين والولايات المتحدة على صعيد العلاقات الدولية والفرق الشاسع أيضا حول أداء كل منهما أثناء المواجهة مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة وتعاملهما مع آثارها السياسية والاجتماعية.
كان واضحا خلال الشهور الأخيرة أن الصين تتعامل مع الأزمة بكفاءة أكبر من الكفاءة التى تعاملت بها الولايات المتحدة. وكان متوقعا أن تصل أطراف متعددة فى وقت واحد إلى نتيجة فحواها أن الصين تواصل صعودها إلى مكانة أعلى فى سلم القوى الاقتصادية الأعظم فى العالم، وأن الولايات المتحدة تواصل انحدارها على هذا السلم.
كنا قبل سنوات قليلة عندما نناقش شأنا من شئون مستقبل العالم ونضع له سيناريوهات يكون سؤالنا عن الصين مسبوقا دائما بأداة الشرط «إذا»، ثم لاحظنا مؤخرا أن السؤال أصبح يسبقه «متى» أو «عندما». بمعنى آخر لم يعد صعود الصين إلى القمة احتمالا وإنما واقع رسخت أسسه وينمو بسرعة لم تكن متوقعة. وفى هذه الجلسة تحديدا كان موضوعنا الإجابة عن سؤال يفترض أن الصين سوف تحتل بعد أقل من ثلاثين إلى أربعين عاما مكانة القوة الاقتصادية الأولى فى العالم متقدمة على الولايات المتحدة والهند.
وينقسم السؤال إلى ثلاثة أقسام أولها يتعلق بما إن كانت القوة الاقتصادية تعنى بالضرورة قوة سياسية، بينما يدور القسم الثانى حول نوع الهيمنة التى ستمارسها الصين عندما تقرر أن تقود العالم وتهيمن على تفاعلاته ومصائره. بمعنى آخر، هل ستتبع الصين النمط الغربى فى الهيمنة أم سيكون لها نمطها الخاص. ونسأل ثالثا عن الأثر الذى يحدثه صعود الصين فى فكر التنمية ومصطلحاتها، وبخاصة مصطلح التحديث، وعلاقة كل هذا بالأسلوب الذى سوف تستخدمه الصين فى ممارسة هيمنتها.
يبدو مؤكدا أنه، بسبب الإنجاز الذى حققته الصين، بدأ مفهوم التحديث يتعرض لمحاولات تهدف إلى صياغة تعريف جديد له، وأحد أسباب ذلك نجاح النموذج الصينى فى إخراج دولة من مرحلة التخلف ونقلها إلى مراتب القوى الاقتصادية المتقدمة فى عقود قليلة وبتكلفة اجتماعية وسياسية ليست باهظة، على عكس النموذج الغربى الذى أخذ وقتا أطول وبتكلفة باهظة. سيتعين على الفكر السياسى الغربى من الآن فصاعدا إعادة النظر فى أسسه التى قام عليها، وهى الأسس التى تساوى التحديث بالتغ ريب. نحن أنفسنا نشأنا على اعتقاد بأن لا حداثة فى دولة لم تأخذ بالنمط الغربى فى السياسة والاقتصاد والتشكيل الاجتماعى. تصورنا أن العالم لابد أن يكون «غربيا»، ثم تصورنا ــ وبخاصة خلال سنوات هيمنة فكر العولمة ــ أن الحديث هو الأمريكى والعالم لابد أن يكون أمريكيا. وتبادلنا الاتهامات بالتخلف لأننا لم نملك ناصية «الأمريكانية» فى عاداتنا الغذائية والسياسية وسلوكياتنا اليومية.
يجب أن نقر بأن هذه التصورات صارت محل شك بعد أن استقر النموذج الصينى وأثبت كفاءته فى التصدى لعيوب النظام الرأسمالى ونقائصه. نعترف أيضا أن هذا النموذج أثبت، رغم مشكلات التطبيق التى واجهها ولا يزال يواجهها، أنه لم يتسبب فى ضرر أو كارثة أصابت البشرية، كالكارثة التى تسبب فيها النموذج الأمريكى عندما توحش، وبخاصة فى العقود الأخيرة. أثبت كذلك، ولعله الإثبات الأهم، أنه النموذج الأقدر على التغيير المستمر وإصلاح الأخطاء، بدليل أن الصين خلال خمسين عاما أدخلت تغييرات متعددة على مسارات تنميتها، بينما رفضت الطبقة الحاكمة فى الولايات المتحدة إدخال أى تغيير جوهرى خلال فترة أطول، إلى أن دفع الانحدار المتوالى للاقتصاد الأمريكى وتراجع مكانة الولايات المتحدة نخبتها الحاكمة إلى الاقتناع بضرورات التغيير. وعندها ظهر باراك أوباما ثم صعد واستعدت أمريكا للتغيير واستعدت القوى المناوئة لصد هذا التغيير.
لماذا الاقتناع المتزايد بأن الصين ستواصل الصعود؟. يجيب عن هذا السؤال مارتين جاك فى كتابه بعنوان «عندما تحكم الصين العالم»، بقوله إن الصين تستحوذ على أربع صفات نادرا ما تجتمع فى دولة من الدول. هذه الصفات هى:
1 ــ مساحة قارية شاسعة.
2 ــ عدد هائل من السكان.
3 ــ تجانس عرقى فريد فى نوعه.
4 ــ مركزية «الحضارة الصينية» فى حياة الصين وتكوينها وتاريخها.
وتلك الصفات كافية للدولة التى تمتلكها ــ إذا توافرت لها القيادة السياسية المناسبة ــ أن تقود الإقليم الذى تعيش فيه، وتقود العالم، وتساهم بإنجازاتها فى وضع تعريف جديد لمفاهيم مثل الحديث والحداثة والتحديث. وفى هذا الصدد لا أبالغ وأنا أكرر ما كتبت فى مناسبات سابقة تعود إحداها إلى ثلاثين عاما مضت. وقتها وصلنا إلى اقتناع بأن تفاعلات الإقليم العربى خلال الخمسينيات والستينيات ودور مصر البارز فيها كانت وراء صك مفهوم النظام الإقليمى العربى.
يستطيع المطّلع على مكانة الحضارة الصينية فى حياة الصينيين أن يفهم السر وراء إصرار النخبة الحاكمة فى الصين على امتداد قرن أو أكثر على ضرورة اللحاق بالغرب، ووضع هذا الهدف فى صلب الأيديولوجية القائمة سواء كانت إقطاعية أم ماركسية أم ماوية أم رأسمالية مقيدة. لقد أهينت «حضارة» الصين إهانة بالغة على أيدى القوى الغربية، ورسخت فى النفس الصينية مشاعر مهانة بالغة العمق. ولذلك كان كل إنجاز تحققه الصين يزيد فى ثقة الشعب بنفسه حتى صار الهدف، ليس فقط اللحاق بالغرب، وإنما «استعادة المكان الذى تستحقه الصين باعتبارها الحضارة الأسمى فى العالم». ولذلك يسود بين العارفين بالصين اقتناع بأن مستقبلها موجود فى ماضيها. بمعنى آخر، نستطيع استشراف النمط الصينى فى الهيمنة العالمية من تتبع رؤية النخبة الحاكمة فى الصين لتاريخها ونظرتها إلى الأقاليم والشعوب المجاورة.
قامت هذه العلاقة على قاعدة «الممالأة أو التبعية الحضارية». وكانت الحكومة الإمبراطورية فى الصين تترك هذه الشعوب المجاورة لحالها ولا تتدخل فى شئونها طالما اعترفت هذه الشعوب والأقاليم بأولوية حضارة الصين وثقافتها على حضارتها وثقافتها وأى حضارة أو ثقافة أخرى. ومع ذلك لم تطلب الصين من أى شعب مجاور تبنى حضارة الصين أو ثقافتها. يكفى تقديم الاحترام لها والاعتراف بسموها. من ناحية أخرى، لا يمكن تصور يوم يأتى تتخلى فيه نخبة حاكمة فى الصين عن اعتناقها فكرة أن الصين «دولة حضارة»، أى أن الأساس فى قيامها كدولة هو الحضارة وليس القوم أو الأمة، وبهذا المعنى الصين ليست «دولة قومية»، كالدولة التى نشأت فى أوروبا. أستطيع هنا القول إن «قومية» الصين ستبقى قومية ثقافية وليست قومية عنصر أو جنس أو دين. أستطيع أيضا أن أتخيل العالم فى ظل قيادة الصين وقد أقبل عدد متزايد من الناس فى جميع الدول على تعلم اللغة الصينية والغوص فى أفكار كونفوشيوس ومنظومته للقيم ولكن دون تبنى الثقافة الصينية، فالصين نفسها لن تشجع الآخرين على طلب الانتماء لحضارتها، وأتصور فى الوقت نفسه الصينيين وقد أقبلوا على تعلم أساليب الغرب وأفكاره لحاجتهم الدائمة إليها ولكن دون الاعتراف بأن لها أسبقية حضارية أو أنها تعبر عن «ارتقاء ثقافى».
حاولت أمريكا أن تعيد تشكيل العالم ليكون على صورتها أو وفق تصورها ولم تنجح. وتحاول إسرائيل أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط وفق تصورها «الحضارى» أى وفق خريطة تتوزع عليها حضارات الإقليم حسب مكانتها بالنسبة «للحضارة اليهودية»، وأستطيع أن أتخيل يوما فى المستقبل تتواجه فيه خريطتان حضاريتان: خريطة رسمتها الصين لحضارات آسيا ضمن خريطة أكبر للثقافات العالمية، وخريطة رسمتها إسرائيل لحضارات الشرق الأوسط، ولكل منهما تصوره عن نمط مناسب للهيمنة فى الإقليم.