لا مثير حتى الآن فى تسريبات ويكيليكس الأخيرة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 24 يونيو 2015 - 12:30 م
بتوقيت القاهرة
المثير حتى الآن فى تسريبات ويكيليكس الأخيرة أنها لم تحقق الإثارة التى تستحقها عادة، وفى الغالب لن تحققها. توقعنا فى ساعاتها الأولى أن تملأ الفراغ الذى فشلت فى ملئه مسلسلات شهر رمضان متدنية المستوى. توقعنا أيضا أن تنفخ فى روح السياسة والسياسيين وفى روح الإعلام والإعلاميين فتعيد إليهم علامات الحياة. بكلمات أخرى لم تملأ التسريبات إلا جانبا ضئيلا فى فراغ التسلية ولم تنفخ إلا قليلا من الروح فى السياسة والإعلام، ولم تثر نقاشا واسعا أو مهما حول ظاهرة التدهور المتسارع فى نمط أخلاق النخب الحاكمة، والسياسية بشكل عام، ولم تثر غضب أو حتى اهتمام صانع السياسة للزيادة الملحوظة فى معدل التدخل من جانب بعض الإعلاميين فى شئون السياسة الخارجية المصرية، علنا إن أفلحوا وسرا إن كان العائد المادى من الخارج كبيرا. انتظرت مرات عديدة أن أسمع عن إجراء اتخذته الأجهزة المسئولة عن السياسة الخارجية تحث به الإعلاميين على توخى الحرص على مكانة الدولة وهيبتها عندما يستضيفون من لا يؤتمن بمعلوماته وتحليلاته الهزيلة على قضايا خطيرة أو من يسخر الشاشات وصفحات الصحف ساحة مفتوحة تتصارع فيها الإرادات الأجنبية ووكلاؤها فى القاهرة.
***
الناس فى مصر غير مثارين لأنهم واثقون من أنه لا دخان من غير نار، أو لأنهم من كثرة ما يطلعون عليه من مظاهر فساد لم يعودوا متشوقين لمعلومات جديدة عن هذا الفساد. هم أيضا تعرضوا خلال سنوات، مثلهم مثل غيرهم من الشعوب، لحملة مكثفة من جانب الإنترنت غسلت وبدلت وطهرت وأفسدت ولم تترك متعلما أو نصف متعلم إلا وقد أدرك بأنه يعيش مرتبكا فى حياته العامة والخاصة منذ أن أصبح كتابا مفتوحا. هذا الكتاب تقرؤه أجهزة الدولة التى ينتمى إليها والدول الأخرى إن دعت حاجتها، ويقرؤه غير المتخصصين من العامة والأقارب والأصدقاء. انفتحت مختلف السير على جميع مصاريعها، ولم يبق إلا قليلون يطبقون إجراءات السرية فيتكتمون ويشفرون ويغلقون الغرف عليهم عندما يتناقشون ويتهامسون عندما يخططون. هؤلاء القليلون بعضهم تغلبت عليه السذاجة، وبعضهم يعاند الزمن ويرفض مبدأ العلانية والشفافية. بعض آخر يعتقد أن «المؤامرة» تقف وراء حملة كشف المستور لأنها تريد الفتك بالدولة. الدولة المهددة فى نظرهم هى مؤسسات القمع باسم الأمن وليست مؤسسات التنمية والتعليم والصحة والنهضة ورعاية الحقوق. هؤلاء جميعا لن يتأثروا بتسريبات ويكيليكس الأخيرة، ولن يسمحوا لها أو لغيرها بأن تجعلهم أكثر شفافية وانفتاحا. فالكتمان ستار يخفى الكثير من عدم الثقة فى النفس والعجز عن اخضاع معلوماتهم للفحص والتدقيق، بمعنى آخر كل هؤلاء، وهم قليلون على كل حال ولكن متمكنون، لا يحبون «الحقيقة».
***
ماذا أتوقع أن يفعل دبلوماسى أجنبى، سفيرا كان أم ملحقا سياسيا، سمع منى أو من غيرى رواية عن شخص فى مكانة عليا فى الدولة، أو ورد إليه تقرير سياسى يحلل معلومات عن تطور الأوضاع فى مصر، أو جرى فى بيته وقصر السفارة حديث بين مدعوين ناقشوا فيه مستقبل بلادهم وأمراضها وأوجاعها، ثم أسر بعضهم فى أذن السفير بطلب توسطه لدى حكومة مصر ليحصل على حق له أو مكانة ليست له.. أتصور أن أى انسان متزن يزور مقر بعثة أجنبية أو يستقبل فى مكتبه وبيته ممثلا أجنبيا يعرف أن ما يقوله سينقل حرفيا أو بإضافات وتجميلات دبلوماسية إلى الأجهزة المعنية فى دولة أخرى، وبفضل الإنترنت من الجائز جدا أن ينقل فى اللحظة ذاتها إلى أجهزة فى دول عديدة.
***
كنت ذات يوم أحتفظ بعلاقة صداقة عائلية مع دبلوماسى يمثل دولة شيوعية من دول شرق أوروبا. لم يكن الإنترنت قد دخل بعد بيوتنا ومكاتبنا. حدث فى إحدى سهراتنا أن تحدث الصديق الأجنبى مطولا عن بعض دخائل الفساد فى الحزب الحاكم وفى أجهزة الدولة فى بلاده. أسر لى بأن موقفهما فى الحزب هو وزوجته من قضايا الفساد كان السبب فى إبعادهما إلى سفارة فى احدى دول أمريكا الجنوبية. وجدت من واجبى أن أنقل إلى القاهرة بعض المعلومات عن الدولة الصديقة الفاسدة متحاشيا ذكر اسم الزميل الدبلوماسى وزوجته. مرت سنوات قبل أن أتلقى رسالة منه ينبئنى فيها بأنه أعيد من أمريكا الجنوبية إلى بلاده، وهناك أطلعوه على تقرير وارد من جهاز فى القاهرة، غير وزارة الخارجية، إلى جهاز مماثل فى بلده بنص المعلومات التى نقلتها عنه وائتمننى عليها، وأنه لم يكن صعبا على أجهزة بلاده التعرف على مصدر المعلومات خصوصا أن أجهزة بلادى لم تتأخر عن إبلاغ أجهزة بلاده الصديقة باسمى وموقعى. حدث هذا كما قلت قبل اختراع الإنترنت. أردت فقط بهذه الرواية الصغيرة أن أقول إن السفير، أيا كان موقعه، الذى نقلت عنه ويكيليكس الرسائل والمعلومات لم يرتكب خطأ بل أدى واجبا. ولم يخطئ سنودون أو أسانج عندما نزعا ستائر التعتيم عن الرسائل التى تتبادلها الدول. الخطأ، هو خطأ، الشخص غير المتزن أو الشخص الشره للمال والنفوذ أو الشخص المتآمر، الذى نسى أو تناسى أن كل ما يقوله أو يسلمه مكتوبا لممثل دبلوماسى أجنبى سوف يخرج إلى العالم بأسره فى أى لحظة.
***
روى لى صديق من كبار المفكرين أنه خلال وجوده فى أحد الفنادق الكبرى فى عاصمة إحدى الدول الشقيقة، سمع جلبة فى داخل مصعد كاد يصل إلى مستوى البهو. انفتح المصعد ليكشف عن اثنين من رجال العلم والفكر وهما يتشاجران بصوت عال. تجمهر ضيوف الفندق وأغلبهم من المصريين وعرب آخرين ليكتشفوا أن الشجار بسبب الاختلاف الشاسع بين المبلغ الذى احتواه المظروف الذى سلم لأحدهما فى غرفته، والمبلغ الذى كان فى مظروف المفكر الآخر. راح صاحب المبلغ الأقل يتهم صاحب المبلغ الأكبر بالعمالة بينما راح صاحب المبلغ الأكبر يصف صاحب المبلغ الأقل بأن الدولة المضيفة لم تتعسف أو تخطئ، فزميله لا يساوى فى الحقيقة أكثر من المبلغ الذى حصل عليه. كان الشجار فضيحة بكل المعانى. عاد أعضاء الوفد المصرى ليحكى كل منهم حكاية شجار الكبار وفى حقائب عدد منهم مظاريف مختلفة الأحجام.
***
ليس سرا المدى الذى ذهب إليه فى السنوات الأخيرة سفراء أجانب فى التدخل فى الشأن المصرى وفى شئون منظمات دولية وإقليمية عاملة فى مصر. سمعت أن السفراء أنفسهم يشكون من اللامساواة فى التعامل الحكومى والأمنى معهم، هناك سفارات مسموح للمواطنين المصريين«التخابر» معها وسفارات محرم عليهم التعامل معها. يشكون أيضا من أن الدولة تتدخل لدى أجهزة الإعلام لحماية مصالح وسمعة دول أجنبية معينة وترفض التدخل لوقف الحملات الإعلامية على دول أخرى بحجة التزام الدولة المصرية بحرية الصحافة وحماية الحق فى التعبير.
***
من حق أى دولة، إن سمحت ظروفها المادية والسياسية، أن تؤثر فى مسيرة الدول الأخرى. بالغت بعض الدول فى ممارسة هذا الحق حين راحت تمارس الفساد والإفساد لمنع شعب قرر فى ثورة ربيع وقف الفساد واقتلاع عناصر الإفساد.
يبقى على حكومتنا أداء الواجب الذى كلفها به المصريون، وهو احترام حقهم فى أن يعيشوا مرفوعى الرأس فى بلادهم وفى خارجها.