سرد حمدي أبو جليل الروائي
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 24 يونيو 2023 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
لم يترك حمدى أبو جليل سوى أربع روايات فقط نشرها خلال الفترة من 2002 وحتى 2022 لكنها كانت كفيلة بأن تضعه فى مصاف أهم كتاب الرواية المصرية المعاصرة منذ تسعينيات القرن الماضى، وحتى رحيله المفاجئ الشهر الجارى.
نشر حمدى أبو جليل (1967ــ2023) روايته الأولى «لصوص متقاعدون» سنة 2002 وأظن أن هذه الرواية قد لاقت استجابة نقدية رائعة من كبار النقاد، وعندما نشر روايته الثانية «الفاعل» سنة 2008 تكرس اسمه ككاتب روائى موهوب وذى حساسية خاصة يكتب تجربته الخاصة، ويبحث عن أسلوبه الخاص، وينتج حداثته ورؤيته للعالم على المستوى الفردى قبل أن يكون مشغولًا بحداثات أخرى من أى نوع!.
يمكن القول إن روايتيه الأوليين يمثلان نصا واحدا يحمل رؤية للعالم متسقة ومتجانسة عبر تشكيل جمالى متمرد، وخروج ملموس على مواضعات الكتابة الروائية التقليدية، وبحث محموم عن اللغة/ اللغات التى يجسدها نصه الروائى، فقد عاش حمدى أبو جليل طفولته الأولى فى قرية بدوية على أطراف محافظة الفيوم المصرية، وقد مثل عالم هذه القرية، بملامحه البدوية، جزءًا مهمًا من تجربته، ومن هذا العالم اقتنص ما يسميه حسين حمودة بـ «الجماعة المغمورة» التى صاغت بأعرافها وتقاليدها، وأيضا بثقافتها وتصوراتها الجمالية، الكثير من ملامح عالم أبو جليل، وإن انتقل، فيما بعد، خصوصًا فى روايتيه المذكورتين، إلى التعبير عن عالم «المهمشين»، اجتماعيا وثقافيا، فى مدينة القاهرة أو حول أطرافها.
ــ 2 ــ
أما روايتاه الأخيرتان «قيام وانهيار الصاد شين» و«يدى الحجرية» فيمكن اعتبارهما تنويعتين على لحن سردى واحد. أذكر أننى عندما انتهيت من قراءة مخطوطة الروايتين قبل نشرهما، كتبت لحمدى أبو جليل، ما يلى:
قرأتُ الروايةَ على مهلٍ وبتأنٍ شديد؛ وبصراحةٍ لا تخالجُها ذرةُ مجاملةٍ واحدةٍ أو شائبةُ ــ حتى ــ حيادٍ مزعوم؛ هذه رواية «وحشية» «بوهيمية» فى منتهى الجرأة والجسارة، إذا جاز التعبير، ما زلت قادرًا على إدهاشِ قارئك بتلك العفوية الخالصة والرصد الإنسانى الاجتماعى المذهل، واللغة الخاصة ذات الفائض الدلالى باقتناصها لطاقةِ اللحظة التى تُعبر عنها وتجسدها فى آنٍ.
فى نصه المدهش «حديث الصباح والمساء»، يصف نجيب محفوظ شخصية «جليلة بنت مرسى الطرابيشى» زوجة معاوية القليوبى بأنها موسوعة فى الغيبيات والكرامات والطب الشعبى، وكأنما أخذتْ من كل ملة بطرف بدءًا من العصر الفرعونى، ومرورًا بالعصور الوسطى؛ تذكرت هذا الوصف الجامع المانع بعدما انتهيت من قراءة «قيام وانهيار الصاد شين».
ووجدتنى أستعيده وأتذكره بل أتوسل به للدرجة التى تجعلنى أقول: إنه يصحّ أن نَصِفَ حمدى أبو جليل بأنه كان موسوعةً لا تُبارى فى الثقافة الشعبية الهامشية، وفى حياة المغتربين المهمشين البسطاء، بما فيها من وقائع وبما تحتشد به من شخصيات، تلتقطها بروحٍ لا تخلو من سخرية خالصة نافذة كالسهم، وتجسدها بسرد مشبع بروح العامية المصرية.
صار أبو جليل مرجعا سرديا فنيا فى تفاصيل الحياة الاجتماعية والإنسانية لسكان الجيوب اللا مركزية، والجماعات العرقية والقبلية والعشائرية ذات الخصوصية الثقافية فى رؤيتها للعالم وتجسيد هذه الرؤية، بل فى تجليات هذه الجماعات الثقافية الفنية بكل صورها وأشكالها؛ بدءًا من الأحاديث والحكايات الشفاهية الدارجة، وأشكال التواصل اليومية، والمحكيات اللهجية، مرورًا بالطقوس والعادات والتقاليد، وصولًا إلى مجابهة الحياة والكفاح من أجل البقاء.
ــ 3 ــ
قد يُربك هذا النص «الصاد شين» (والذى يليه «يدى الحجرية») هواة التصنيف، ويضعهم فى مأزق كبير؛ فمن يبحثون عن الحدود الصارمة للنوع الأدبى والخطاب الروائى قد لا يجدون بُغيتهم، والذين يميلون إلى إلغاء الحدود بين الأنواع وتماهى الفواصل بين الأجناس سيحتفون بالتأكيد بهذا المزج البارع بين ما يبدو أنه «سيرة ذاتية» جسور وذات جرأة متوحشة، وبين النص الوثائقى الاجتماعى المدهش الذى يمثل كنزًا لا يقدر بثمن للباحثين الاجتماعيين والمؤرخين وعلماء الإنسانيات؛ سيكون لهذا النص مكانه الجدير به بين هذه النصوص التى تحمل من دلالاتها التوثيقية الأرشيفية «الفنية» ما يغنى عن ألف وثيقة رسمية أخرى فى مجالها!.
قد يقرأون عشرات الكتب والمراجع والدراسات عن البشر والمكان فى ذلك الخلاء الشاسع بين مصر وليبيا فى تسعينيات القرن الماضى، لكنهم لن يجدوا أبدًا مثل هذه التفاصيل الإنسانية والاجتماعية المذهلة عن حياة المغتربين البسطاء عن «السخرية» التى تفيض فى هذا النص، عن «المفارقة» التى لا يستطيع أن يرصدها ويولدها إلا كاتب مبدع وفنان أصيل.
صحيح أن النص لا يخلو من بعض التكرار والاستطراد قد يصح معهما حذف هذه الأجزاء «إذا قبل كاتب النص ذلك برحابة وسعة أفق».
ــ 4 ــ
ختامًا يلخص الناقد الكبير الدكتور حسين حمودة روح كتابة حمدى أبو جليل ووجه اختلافها وخصوصيتها بقوله إن كتابة حمدى أبو جليل القصصية والروائية، بوجه عام، تحتفى بما هو حسى، وتقلب الأدوار، وتختبر مواضعات الكتابة وأعرافها، وتكتشف الجمال فى عالم خشن، فظ، يلوح، ظاهريا، خاليا من كل جمال.
رحم الله الكاتب والروائى القدير.