التباكى على محمد نجيب
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 24 يوليه 2017 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
هذا العام وعلى عكس السنوات الماضية جاءت ذكرى ثورة 23 يوليو بندابين جدد، هبطت الدماء الزرقاء فجأة على شرايينهم بعد أن تلقوا تعليما جامعيا مجانيا بفضل الثورة، فراحوا يترحمون على أيام الملكية، ويمجدون الاستعمار، قبل أن يهيلوا التراب على يوليو وصناعها تحت عنوان «الثورة ظلمت محمد نجيب» وقد حان الوقت لرد اعتباره!!
بعض الكارهين لثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر وجدوا فى تكريم نجيب بإطلاق اسمه على أكبر قاعدة عسكرية فرصة لفتح ملفات قديمة ترافق كل احتفال بذكرى الثورة المجيدة، لبث سموم وأحقاد، ضد من انحازوا لصالح الفقراء والمعدمين ومن كانوا يمشون حفاة عراة قبل عام 1952، فانتصرت الثورة لحقهم فى نصيب عادل من ثروة بلدهم، قبل أن يلتف اصحاب الانفتاح، وابناء «الكامب» على كل تلك المكاسب.
محمد نجيب ضابط مصرى وطنى لا شك فى ذلك، غير أن دوره فى ثورة يوليو لا يزيد ولا ينقص عن المسار الذى قدر له، وقف الضباط الاحرار خلفه فى انتخابات نادى الضباط فى مواجهة مرشح الملك فاروق لقياس مدى قوتهم، ثم لجأوا إليه مع فجر الثورة كاسم معروف يمكن أن يكون «واجهة» مقبولة، قبل أن يتم اختياره، عقب إعلان النظام الجمهورى فى 18 يونيو 1953، ليكون أول رئيس يحكم مصر فى العصر الحديث.
خطط الضباط الاحرار لثورة وكان لديهم توجه واضح للتخلص من الاحتلال البريطانى، وتحرير السواد الأعظم من الشعب المصرى من الثلاثة الأشهر «الفقر والجهل والمرض»، وعداء سافر للملك الفاسد وحاشيته، وخلاف لا ينكر مع احزاب الأقلية التى استخدمها الملك ألعوبة، قبل أن يتجاوز الزمن القوى السياسية التى شاخت وانتهى دورها، باختصار أنت أمام جيل من الضباط الشباب يفيض ثورية، يحلم ويسعى ثم يقود تغييرا حقيقيا لمجتمع النصف فى المئة، يدهس فى طريقه الإقطاع، وسطوة رأس المال على الحكم.
فى المقابل كان نجيب، (مواليد 19 فبراير 1901)، لا يتجاوز تفكيره حدود العودة بالجيش إلى الثكنات، وتسليم السلطة للقوى القديمة التى فشلت فى تحقيق أحلام المصريين فى الاستقلال الوطنى وطرد الاستعمار، والقضاء على الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، فكان منطقيا أن يختلف معه الضباط الاحرار ومجلس قيادة الثورة، حتى وصلنا إلى ما عرف بأزمة مارس 1954، قبل أن يغادر نجيب الساحة التى كان نهرها الهادر يمضى غير ملتفت إلى العقبات التى تعترض مسيرته.
بعض المتباكين على اللواء نجيب، لغرض فى نفس يعقوب، يتشدقون بالديمقراطية والقيم الليبرالية التى كان يدافع عنها الرجل فى مواجهة الديكتاتورية التى كان يتبناها عبدالناصر ورفاقه، وكأننا كنا قبل الثورة وفى ظل الاستعمار نتيه خيلاء بأزهى عصور الحرية والديمقراطية (!!)، وكأن السفير البريطانى لم يكن يحكم ويتحكم، متناسين حادث أربعة فبراير 1942 عندما ارغم الاحتلال الملك وقبل الوفد بالحكم تحت الحراب البريطانية.
البعض الآخر من المتباكين على نجيب يعتقدون أن بذكره، والنفخ فى مسيرته، يتقربون إلى أولى الأمر من ناحية، وينالون من عبدالناصر وتاريخه ودوره من الناحية الأخرى، ووصل الخطل إلى درجة دعوة بعض الحمقى لعودة الملكية، وعهدها البائس، وكأن عقارب الزمن يمكن أن ترجع إلى الوراء، فيسترد البعض الوسية التى كان جده يضرب فيها بكرابيج رجال الإقطاع والطغمة الحاكمة، عملا بمقولة «القط يحب خناقة»، وهو مرض نفسى وقانا الله منه، غير أن أضغاث الأحلام، لابد وأن تتبخر أمام حقيقة أننا نعيش فى «جمهورية مصر العربية»، وأن الانسان لا ينزل النهر مرتين.
نجيب كان مرحلة وانطوت ضمن مسيرة طويلة من تاريخ مصر ولا يصلح الاختباء خلف سيرة الرجل للنيل من ثورة ستبقى الأكثر تأثيرا فى حياة المصريين بدليل الصخب الذى يرافق ذكراها كل عام، فلا أحد يخشى الموتى لكن الأحياء من يُرهِبون.