شجون امرأة
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 يوليه 2018 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
سمعتك تخاطبين صديقتك. سمعتك تعرضين عليها المشاركة فى تحقيق أمنية أعرف أنها تمكنت منك حتى سيطرت وهيمنت. تقولين لها، وأنا أعلم كم هى قريبة منك ومن أمنياتك وأحلامك، «تعالى نجرب معا تعميق ما حققنا خلال مسيرتنا لتحرير المرأة. حققنا الكثير، ولدينا أكثر من دليل. ولكن هناك الدليل الذى يقلقنى فى النهار ويقض مضجعى فى الليل. تذكرين ولا شك مخاوفنا من أن خصوم تحرير المرأة لن يهدأ لهم بال إلا وقد أفلحوا فى وقف المسيرة أو تعطيلها بعقبات من كل نوع وعقيدة وأسلوب. أظن أننا نجحنا إلى الحد الذى يمكن أن يكون قد جرح كرامتهم وهز ثقتهم بأنفسهم. قد أكون مخطئة أو مبالغة ولكنى أتصور أن الخطر الذى يهددنا آت من مصدرين هما بالفعل أهم نقاط ضعفنا.
***
تذكرين يا صديقتى كم من المرات ناقشنا قضية التاريخ وكيف ظلمنا وأين انتهينا بسبب هذا الظلم قبل أن نثور ونبدأ مسيرة التحرير أو التمكين. ما زلت عند موقفى من أن بعض إنجازاتنا نحو تحرير المرأة سوف تبقى عرضة للانتكاس ما لم نزودها بوقائع تاريخية عن دور للمرأة فى صنع التاريخ ونثبت أن الرجل لم يصنع التاريخ وحده كما يزعم أغلب المؤرخين.. غير معقول أن تعيش المرأة عشرات الألوف من السنين طرفا غائبا أو منسيا أو فى أحسن الأحوال طرفا ثانويا. أتمنى أن أرى قراءات جديدة فى التاريخ تركز على دور للمرأة فى صنع هذا التاريخ. كل الأنبياء ذكور. هذه إرادة لا نتدخل فى تفسيرها أو تبريرها. ولكنى لا أفهم، ولن أفهم، أن يكون التاريخ كله أو أكثره دينيا كان أم غير دينى من صنع رجال. وإن جاء ذكر النساء فى السرديات التاريخية فمحظيات فى قصور الخلفاء والسلاطين والقياصرة والأباطرة أو فى رسومات وتماثيل كبار الفنانين، وهؤلاء أنفسهم من الذكور.
***
كثيرا ما تساءلت هل يتحمل الوزر المؤرخون باعتبارهم رجالا يمكن أن يتحيزوا للذكور بطبعهم وأعرافهم وعقائدهم الدينية فيرفضون البحث عن أدوار للنساء فى صنع التاريخ. أم أن النساء كن بالفعل خارج التاريخ فلم تصل سيرهن إلى المؤرخين. كثيرا ما أعربت لأساتذة تاريخ معروفين عن دهشتى لخلو الساحة الأكاديمية المصرية تقريبا من مؤرخات ومسجلات تاريخ ولم أتلق تفسيرا مرضيا. الحل فى رأيى لن يخرج عن إنشاء مدرسة جديدة لإعادة قراءة التاريخ بعيون وعقول نسائية أو على الأقل ولفترة محدودة بعيون وعقول مؤرخين من الذكور قرروا تركيز جهودهم فى البحث عن أدوار للنساء أغفلها مدونو الأحداث ورواتها فى قصور الحكم وفى الكنائس والمعابد على اختلاف أنواعها. سيكون مثيرا وبحق قراءة إعادة لتسجيل تاريخ مراحل من حياة شعوب الآزتك والإنكا والمصريين والبابليين والفرس والهنود والصينيين القدامى تبرز فيها أدوار النساء فى صنع هذه الحضارات.
***
صديقتى، لقد حققنا الكثير، أنت وأنا ومعنا عديد النساء والرجال فى شتى أنحاء العالم. لكن الخطر جاثم يهدد كل أو بعض ما أنجزنا وننعم فى ظله باستقلالية لم تدركها جداتنا وأمهاتهن. يكمن الخطر فى حقيقة أن أحفادنا يدرسون تاريخا ناقصا أو مبتورا. أقول، بل وأدعو، بضرورة استكمال هذا التاريخ أو إصلاحه إن لزم الأمر. بناتنا لا يعرفن تاريخا لمسيرة البشرية غير التاريخ الذى كتبه ذكور عن سير وأعمال ذكور. أولادنا الصبيان سيتدعم لديهم شعور التعالى الذكورى، هذا الشعور الخبيث الذى ننشئ عليه أطفالنا ونغرس معه عقدا وعيوبا نفسية وأخلاقية تعشش فى عقول أطفالنا وتكبر معهم. تعالى معى نحمى إنجازاتنا وننمى إمكاناتنا، تعالى نصوغ حلا لمشكلتنا مع التاريخ.
***
نعم، التاريخ خطر يهددنا ولكنه ليس الخطر الوحيد الجاثم فوق صدر حركتنا الوليدة. يهددنا أيضا الخطر المتنامى نتيجة شعور الإنسان المعاصر بالوحدة، وهو المتزايد بخاصة بين النساء كميا ونوعيا. قبل أى شىء دعينا نعترف بأن استقلاليتنا، أهم إنجازات حركة تحررنا، مسئولة بدرجة غير بسيطة عن انتشار الشعور بالوحدة بين النساء المعاصرات. لا توجد بيننا من تنكر أن تحقيق الاستقلال كان وراء حصولنا على مستوى أرفع من التعليم وبالتالى على دخول أعلى. هذه الزيادة فى دخول النساء شجعت عددا أكبر على الهجرة من المدن إلى الضواحى. بل أنها هى نفسها التى دفعت نساء عديدات لدفع أقساط من دخولهن الجديدة لشراء مزيد من الاستقلالية. لا تنسى يا صديقتى أن حلم أى فتاة أو امراة حققت قدرا من فائض فى الدخل هو الهجرة من عائلة كثيفة الأعضاء إلى عش منفصل أو غرفة فى شقة متعددة الغرف فى بيت متعدد الطوابق أو وهو الحادث بكثرة هذه الأيام الهجرة إلى غرفة عصرية التأثيث فى بيت صغير فى حى من أحياء الضواحى وحبذا لو كانت ضاحية منعزلة. بمعنى أخر كان الطريق ممهدا منذ بدأ التحرير والتمكين لتلحق بهما الاستقلالية ثم الدخل الأعلى فالهجرة إلى السكن المنفرد، ومنه آجلا أم عاجلا إلى الشعور بالوحدة.
***
ثم هناك الزواج المتأخر كسبب دافع للشعور بالوحدة، وقد يكون هو نفسه نتيجة لحصول المرأة على قدر عال من الاستقلالية سمح لها بأن تحصل على تعليم أعلى وأحيانا ما يكون فى مدينة أخرى ووظائف تدر دخلا أكبر وغالبا ما تتوافر هذه الوظائف فى دولة أخرى، كلها عناصر تغرى المرأة على تأخير رهن نفسها لشخص يعيدها إلى حياة القيود والتقاليد والممنوعات والمحرمات، يعيدها أيضا إلى التزامات تجاه عائلة وبيت أكبر. المشكلة الأعظم التى واجهتها صديقات تعرفين أكثرهن كانت حين اكتشفن أنهن تعودن على حياة النساء المستقلات وغير المرتبطات بزوج وأطفال، عانين وقتها من الشعور بالوحدة هن الآن وبعد أن تزوجن وأنجبن ورحن ينعمن بمتع الحياة المكتظة لا تفوتهن الشكوى المنتظمة من نمط حياة يجعل الشوق لأيام الوحدة أشد إلحاحا.
تذكرين ولا شك ثلاثة على الأقل هن الأقرب بين صديقاتنا اللائى قررن ونفذن الطلاق. تعترف الأصغر سنا أنها تعلمت من تجربتى الزواج والطلاق أشياء مهمة. تقول أنها تشعر بحرية لم تتح لها من قبل، وتضيف أنها لم تكن تعرف أن المرأة المطلقة أكثر قبولا فى المجتمع من نساء لم يتزوجن. كانت تسمع من أهلها العكس. وهى تشرح لماذا شعرت بارتياح فى علاقاتها الجديدة ربما لأنها تقدم على هذه العلاقات بمنطق من أدت واجبها للمجتمع كاملا، أدته حين تزوجت وأنجبت فلا أحد يحق له اليوم أو غدا مطالبتها بأن تتزوج.
***
هذه الصغيرة قالت شيئا آخر أحب أن تسمعيه. قالت أتعرفين يا صديقتى ما الذى افتقد حقيقة وصراحة. أفتقد بين كل من عرفت وأحببت وعاشرت مفكرتى التى لم تجعلنى أشعر يوما بالوحدة أو أشتاق يوما لغيرها.