تطور السياسة الدولية منذ القرن العشرين.. مقدمة
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 24 يوليه 2021 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
فى جلسة مجلس الأمن الأخيرة لمناقشة قضية سد النهضة، تراوحت خطب الدول الكبرى بين كلمات دبلوماسية هادئة حالمة وبين أخرى حاسمة، وفى كلتا الحالتين، لم يخرج مجلس الأمن لا بقرار ولا حتى ببيان يصوغ موقفا أوليا من القضية المثارة أمامه، مما دعا الكثير من المصريين والعرب الذين لم يكن معظمهم قد تابع جلسات مشابهة لمجلس الأمن للتساؤل عن سبب هذا العجز رغم أن جلسة المجلس جمعت العديد من الدول الكبرى كروسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين وبريطانيا!
أثارت قضية السد أيضا الكثير من التساؤلات حول مدى وجود قانون دولى يحكم بين الدول كما تحكم القوانين الوطنية بين أفراد ومؤسسات الدولة الواحدة! كما أثارت القضية مجموعة ثالثة من الأسئلة عن مدى قدرة الدول الضعيفة أو الهشة أو الصغيرة على المناورة فى العلاقات الدولية وإمكانية تحقيق بعض المكاسب على حساب الدول الأكبر أو الأكثر قوة!
•••
الحقيقة أن مثل هذه الأسئلة التى يطرحها الرأى العام تتكرر كل فترة على هامش الكثير من القضايا العربية والإقليمية والدولية التى طرحت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مثل القضية العراقية والفلسطينية والصومالية والرواندية واليوغسلافية... إلخ.
إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست بالأمر الهين كما يبدو الأمر للوهلة الأولى، لأن الطريقة التى يرى بها علماء السياسة والمتخصصون فى العلاقات الدولية تختلف باختلاف المنظور أو العدسة التى يرى كل منهم من خلالها العلاقات بين الدول. قبل عشرين عاما مثلا كان الدكتور المرحوم سمعان بطرس فرج الله يدرس لنا فى قاعات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، المنظور الواقعى للعلاقات الدولية والقانون الدولى. حيث رأى الدكتور سمعان أن القانون الدولى هو مجرد أداة فى يد الأقوياء فقط، وأن من يخضعون للقانون هم الدول الضعيفة فقط! فالقانون الدولى الذى ينطبق على إسرائيل مثلا لا ينطبق على فلسطين، وما يتم فرضه من قواعد على إيران لا تخضع له كوريا الشمالية أو الصين، وما قد يتم معاقبة العراق عليه، قد لا تعاقب عليه روسيا... إلخ.
وعلى النقيض من ذلك، توجد مدرسة أخرى بين علماء السياسة ترى أنه على الرغم من وجود الكثير من الثغرات فى تطبيق القانون الدولى، فإن القرن العشرين قد شهد ما لم يشهده تاريخ البشرية من تطور للقانون والتنظيمات ومن ثم العلاقات الدولية وإننا نشهد أكثر فترات التاريخ استقرارا نتيجة لهذه القواعد والتنظيمات التى يسرت سبل التعاون بين الدول التى بنت علاقتها على الثقة المتبادلة التى دعمتها هذه البيئة الدولية الجديدة.
فيما ترى مجموعة ثالثة العلاقات الدولية باعتبارها ترتيبات اقتصادية واجتماعية بحيث تسعى الطبقات الأغنى عبر الدول تطويع قواعد العلاقات والقانون الدولى إلى السيطرة على الطبقات الأقل اجتماعيا واقتصاديا ومن ثم تكريس هذه الطبقية الدولية! فيما ترى مجموعة رابعة العلاقات الدولية على أساس التمييز الثقافى أو الدينى أو الأيديولوجى، فمجموعة الدول الأكثر تقاربا من حيث الثقافة أو الديانة أو الأيديولوجية تسعى لإخضاع غيرها من الدول المختلفة ثقافيا وذلك لنشر ثقافتها ومبادئها عالميا، فيما تكتفى مجموعة خامسة من المتخصصين بتقديم رؤية ميكانيكية للعلاقات الدولية فالأخيرة وفقا لهذه الرؤية ما هى إلا تفاعل بين العديد من الدول وغير الدول وبين التنظيمات والقواعد الدولية التى تقوم بوظائف وأدوار محددة بشكل روتينى دون أن يكون للأخيرة بالضرورة أى هدف أيديولوجى أو ثقافى أو اقتصادى... إلخ.
إذا كان المتخصصون مختلفين بهذه الدرجة فى رؤية العلاقات الدولية، فكيف للمواطن غير المتخصص المهتم بالشأن العام أن يرى هذا العالم الذى نعيش فيه؟
•••
هناك طريقتان للإجابة عن هذا السؤال، الأول هو أن تنتقى أيا من المدارس السابقة والتى قد تتوافق أو تقترب من فهمك للعلاقات الدولية، أما الطريقة الثانية هى أن تقوم بقراءة تاريخ العلاقات الدولية وبعد أن تنتهى من القراءة، تضع لنفسك الخاتمة المناسبة!
إذا كنت مقتنعا بالطريقة الأخيرة، فيمكنك متابعة هذه السلسلة من المقالات الأسبوعية التى أبدؤها من الأسبوع القادم لتقديم قراءة مختصرة لغير المتخصصين عن الطريقة التى تطورت بها العلاقات الدولية والقانون الدولى منذ بداية القرن العشرين وحتى اللحظة، ولكن قبل أن أبدأ السلسلة لابد من وضع مجموعة من الملاحظات التى من المهم قراءتها قبل بداية السلسلة:
أولا: هذه السلسلة ليست تأريخا للعلاقات الدولية، فلهذا التأريخ متخصصون، ولكنها «قراءة» لتطور العلاقات الدولية، بمعنى محاولة تقديم سردية للأحداث الدولية التى أثرت على العلاقات بين الدول وغير الدول منذ بداية القرن الماضى.
ثانيا: ستعتمد هذه السلسلة بالأساس على مقرر العلاقات الدولية الذى أقوم بتدريسه فى مرحلة البكالوريوس لطلبة كلية الدراسات الدولية بجامعة دنفر، ولكنى سأقوم بتبسيط المقرر بشكل يناسب القارئ غير المتخصص، ومن هنا فلن تكون السلسلة تحليلا أكاديميا لتطور العلاقات الدولية، لذا لزم التنبيه.
ثالثا: تعتمد السلسلة بالأساس على تغطية الأحداث السياسية الدولية وما قد يرتبط بها من تطورات اقتصادية وقانونية، ولكنها ستكون معنية بالتطور السياسى بالأساس، ومن هنا فالعنوان الأدق لهذه السلسلة هى «تطور السياسة الدولية».
رابعا: لن يكون فى مقدور السلسلة والتى من المقرر أن تستمر لمدة عام تقريبا أن تقوم بتغطية كل الأحداث والتطورات السياسية الدولية، وإلا احتجنا إلى مجلدات كاملة حتى لا نخل بعرض هذا التطور التاريخى الدولى، ولكن ستقوم السلسلة بالتركيز على أهم النقاط المفصلية فى تطور السياسة الدولية والقانون الدولى، بما يخدم الهدف منها وهو الإجابة عن السؤال سالف الذكر.
خامسا: بحكم أن السلسلة ستكون مشتقة من المقرر الأكاديمى الذى أقوم بتدريسه فى الولايات المتحدة فمن الطبيعى أن معظم مراجع السلسلة ستكون باللغة الإنجليزية، وعلى الرغم من ذلك سأعمل على تقديم بعض القراءات العربية المهمة فى هذا السياق وخصوصا ما قد يكون مرتبطا بتطور السياسة الدولية فى المنطقة العربية.
سادسا: نظرا لطبيعة النشر هنا فلن يكون بوسعى تقديم المراجع وتوثيقها بالشكل المتعارف عليه أكاديميا، ولكنى سأسعى إلى تقديم التوثيق الكامل لكل مرجع مرة واحدة على الأقل ثم سأقوم لاحقا بالإشارة المختصرة إلى المرجع حال استخدامه مرات أخرى لاحقة.
سابعا: إن هذه السلسلة ستنظر للسياسة الدولية بحسب تعريفها المستقر تقليديا فى أدبيات العلوم السياسية باعتبارها تفاعلا بين الفاعلين من الدول ومن غير الدول، أى أننا لن نقوم فقط بالتركيز على الأحداث الدولية المرتبطة بالدول، ولكننا سنقوم أيضا بالتركيز على التفاعلات الخاصة بغير الدول مثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة الصليب الأحمر، بل أن بعض الحركات الإرهابية قد تكون أيضا محورا للدراسة.
ثامنا: رغم أننا معنيون بالأساس بدراسة العلاقات السياسية الدولية، إلا أن بعض الأحداث السياسية لا يمكن فهمها إلا فى ضوء فهم التطورات الداخلية لبعض الدول، ومن هنا فستقوم السلسلة فى بعض مقالاتها بتغطية تطور الشأن الداخلى لبعض الدول بقدر ارتباط ذلك بالتطور الدولى المراد التركيز عليه وتقديمه.
ونسأل الله التوفيق...
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر