بيت جحا
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 24 أغسطس 2016 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
كانت فى منطقة الجزيرة عند الطرف الغربى لكوبرى قصر النيل حديقة نموذجية يطلقون عليها اسم حديقة الأندلس. كانت المدارس الابتدائية تنظم الرحلات لزيارتها مع الطلب إلينا نحن التلاميذ أن نرسم لوحات تصور جوانب من الحديقة مثل فسيفساء مدرج الحمام والأرائك الأندلسية، وعند العودة إلى المدرسة نكتب عنها موضوعات إنشاء.
كنا، فور إطلاق حريتنا فى الحديقة، نتسابق زملائى وأنا فى اتجاه الجانب الشمالى حيث يوجد بيت جحا. هناك أقام المهندسون الزراعيون غابة من نباتات بدت لنا فى وقتها كثيفة بجدران مرتفعة تقطع بين أحواضها ممرات تتداخل وتتشابك بشكل يحرض التلاميذ الذين يدخلون فيها على بذل جهد جسدى وعقلى للبحث بين الممرات عن الممر المؤدى إلى باب الخروج، باب غير الباب الذى دخلنا منه. ندخل بيت جحا من باب الدخول ويمشى كل منا فى ممر اختاره اعتقادا أنه الأقصر والأسرع. يتوه من يتوه وكثيرا ما انتهى التائه قاعدا على الأرض فى انتظار من ينقذه فيدله على الطريق إلى باب للخروج.
***
أليس حالنا اليوم كحال هؤلاء التلاميذ الذين دخلوا إلى بيت جحا ومشوا فى دهاليزه فضاعوا فيها؟ ها نحن قاعدون نفكر فى طريقة تنقذنا فتدلنا على أقرب طريق يؤدى إلى باب الخروج من نظام دولى شديد الاضطراب والفوضى ومن نظام إقليمى هالك أو موشك على الانفراط. أتصور، وقد أكون مخطئا فالمعلومات ناقصة إما لأنها محظورة أو لأنها متضاربة إلى حد أن بعضها يلغى البعض الآخر، أتصور أنه لا يوجد فى الشرق الأوسط اليوم من يستطيع أن يعلن بكل الثقة الممكنة أنه اكتشف الطريق أو الطريقة المؤدية إلى باب الخروج.
***
أتفهم قلق شباب الباحثين فى شئون الشرق الأوسط وبخاصة فى حال النظام الإقليمى العربى. هؤلاء الباحثون يجتهدون فى بذل محاولات شبه يائسة لفهم علاقات إقليمية فى إقليم لا خريطة له. كنا قبل أربعة عقود ندرس علاقات إقليمية فى إقليم له خريطة وله منظمة إقليمية تتبادل معه تأكيد الهوية وفيه علماء تكامل ومفكرون قوميون هدفهم تجسيد هذه الهوية. كانت هناك خريطة تحدد بوضوح حدود العالم العربى، داخل الدائرة دول عربية تتشابك فى نزاعات وتوافقات وخطط تكامل وشبكة طموحات بعضها مشروع وعلمى ومدروس بعناية وبعضها من صنع واهمين. خارج الدائرة دول جوار أغلبها يتعامل مع أقاليم أخرى تعاملات أكثر من تعاملاتها مع الإقليم العربى. لم نكن نهتم بدراسة علاقات دول الجوار إلا فيما يخصنا. كانت شأنا ثانويا فى ميدان البحوث العربية.
سمعنا من بعض المسئولين العرب عن آمال فى أن تكون تركيا الأردوجانية باب خروج. شخصيا أظن أن تركيا حظيت بقدر مبالغ فيه من اهتمام غير مدروس وبغير سند تاريخى واضح من جانب معظم حكومات المنطقة العربية. أظن أيضا أن هذا الاهتمام هو أحد أسباب الارتباك السائد حاليا فى معظم دوائر صنع القرار السياسى العربى. كانت بعض حكوماتنا «قاعدة» فى ممر من ممرات قصر التيه والضياع فى انتظار من يدلها على باب الخروج حين فاجأها الرئيس التركى الطيب أردوجان بحركة مسرحية فى أحد مؤتمرات دافوس أثارت رأيا عربيا كان خاملا، وكان المطلوب عربيا أن يبقى خاملا لأطول فترة ممكنة. بعدها بدا أن الحركة المسرحية فاجأت الرئيس أردوجان نفسه فراح يبعث ببواخر ومتطوعين لدعم شعب غزة، فارتفعت أسهم تركيا ومعها أسهم نظام شرق أوسطى على حساب النظام الإقليمى العربى وظهرت خرائط شتى تقزم الخريطة العربية. بتركيا الجديدة ظنت قيادات عربية أن بابا للخروج ظهر على مرمى البصر. جاءت بعدها سنوات معدودة حافلة بالأزمات والمشكلات كشفت للقادة العرب وغيرهم أن لتركيا عوالم أخرى أشد أهمية لها من العالم العربى، وأن تركيا وحدها تعجز تحت وطأة أزماتها عن أن تكون بابا لخروج أحد من ورطاته.
***
صدرت بعد تركيا تلميحات بأن الطريق إلى باب الخروج ربما هو ذاك الذى يمر عبر الكرملين وبالتحديد حيث يقع مكتب الرئيس فلاديمير بوتين. تحولت القوافل من دروبها تلك الموصلة إلى أنقرة لتسلك دروبا متوجهة إلى موسكو وسان بطرسبرج. وفى الأعقاب خرج علينا من يبشر أو ينذر بأن طريقا يجرى تمهيده على وشك أن تفتتحه طهران ويؤدى إلى باب متصل بأبواب خروج أخرى لم تدخل يوما فى حسبان عربى أو أعجمى. زدنا ضياعا حين تجمعت لدينا خيوط. لعلاقات سوف تجمع روسيا بتركيا وإيران. هذه الشبكة، فى رأى البعض، تستطيع وحدها تغيير الوضع فى سوريا إلى حال أفضل خاصة وأنه أمكن للطرفين الروسى والإيرانى إقناع الطرف الثالث بأهمية بقاء الأسد لحين التوصل إلى تسوية يكون الأكراد طرفا فيها إلى جانب الوفد الحكومى. ومن هناك، أى من موقع التسوية ينفتح بابا للخروج من الضياع فى الشرق الأوسط. رأى آخر يعتقد أن هذه الشبكة ينقصها لتنجح وتحقق «المستحيل» أن تضم إسرائيل فتحظى بالدعم الدولى وبالصدقية اللازمة لصنع هذا المستحيل، أى لتسهيل الخروج من حال التوهان الإقليمى. أصحاب هذا الرأى مقتنعون ألا طريق ممكنا للخروج من حال التردى والفوضى فى الشرق الأوسط إلا ويمر على إسرائيل. سمعت خبيرا فى العلاقات الدولية يقول إنه لن يفاجأ إذا بلغه أن تقاربا قريبا قد يحدث بين إسرائيل وإيران، وأن اتفاقا على التطبيع بينهما قد يسبق اتفاقا مماثلا بين إسرائيل والدول العربية مجتمعة، أو على الأقل بين إسرائيل ودول الخليج.
***
فى كل ما قرأت عن باب للخروج من أزمة الضياع فى عالمنا العربى، لم يقابلنى ما يبشر بأن بابا عربيا يوشك أن ينفتح. لم أسمع عن خطة يقترحها زعيم عربى، أو عن مشروع ليناقشه مجلس وزراء الخارجية العرب. لم أسمع أن قمة عربية مصغرة دعيت لإنقاذ الأمة وقيادة دفتها نحو باب للخروج. لم أقرأ عن دعوة وجهتها دول «الخروج»، وكلها بدون استثناء دول جوار، لدول عربية للمشاركة فى جهد البحث عن أبواب أو صيغ.
أخشى من يوم تجد فيه دول الجوار مخرجا لها من وضع الفوضى المنتشرة فى الإقليم وتتركنا لمصير لا أحب أن أتخيله.