«الملافظ سعد» صدقتم

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 24 أغسطس 2025 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

وقفت الكلمة عند حافة الحرف تبحث عن ذاك الأنسب، ونبشت كثيرًا منها، أى من الأحرف، رمت بعضها هنا وركنت أخرى هناك، بل جرّبتها حتى انتقت تلك التى قد تأتى بالمعنى دون قطرة وجع أو جرح فى النفس. الكلمة، إما تفتح أبوابًا على محبة، وإما تبنى جدرانًا من الأسمنت تتحول إلى أشكال من الكراهية المدفونة أحيانًا والقابلة للتحول إلى سلاح من رصاص ودم.

• • •

هنا، حيث تختلط الحكايات بالنيل، وتتعانق الأزمنة فى أزقة القاهرة والإسكندرية والمنيل والأقصر وأسوان، هناك وُلدت الأمثال الشعبية كأبسط شكل من أشكال الحكمة الجماعية. كلمة تحمل تاريخًا من التجارب، وأمثالًا طُرِّزت بنتاج حضارات وثقافات وأديان، فشكّلت جزءًا من الذاكرة والثقافة الجمعية التى استطاعت أن تعبر الحدود لتصل إلى كل ناطق باللغة، ولكل عارف بأن للحروف فى تسلسلها معانىَ وعِظاتٍ وعِبَرًا.

• • •

وقد احتفى هذا التراث الشعبى بمنطق العقل والرفق فى القول واللفظ مثل: «المحبة تنزل من السما»، أو «اللى يسلم ما يتعركش»، أو «الكلمة الطيبة جواز سفر»، و«اللى يقول الحق عمره ما يخاف»، وغيرها من الأمثال، وهى تلخص قوة الحرف عندما يُخزَّن ويخرج فى شكل كلمة متراصة.

• • •

قوة الكلمة ليست فى شدتها، بل فى صدقها وحنانها. هى القوة التى تجعل المختلفين يتحاورون بدل أن يتناحروا، وتجعل الناقد يحترم المختلف معه حتى وهو يرفض فكرته. فإذا كانت الأفعال تبنى عالما ماديا، فإن الكلمات تبنى عالما معنويا لا يقل أهمية: عالم الثقة، الاحترام، الكرامة. فمثل «الملافظ سعد»، على شدة بساطته وربما عفويته، يبدو وكأنه دعوة مفتوحة لأن نزن كلماتنا قبل نطقها، وأن نتذكر أن للكلمة أجنحة تطير، ربما لتَلبَد فى ركن قلب فتشعل نورًا ساطعًا، أو تنزل كسهم لتترك جرحًا غائرًا فى النفس، ويبقى لنا وعلينا أن نختار! حتى عندما نختلف، لا ننزل قطرة دم واحدة. ألم يقل عمر بن الخطاب: «السلام عليكم يا أهل الضوء»، فشكّلت كلماته مفصلًا كسر الجفاف، ونثر الدفء، وفتح أبوابًا واسعة.

 • • •

حتى الأديان التى سكنت أرض مصر لم تكن الكلمة بالنسبة لها، وفى كتبها، مجرد وسيلة للتعبير، بل جوهرًا للوجود. فى القرآن الكريم: (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون)، وفى إنجيل يوحنا: «فى البدء كان الكلمة». فهنا، الكلمة ليست فعلًا بشريًا، بل مبدأ كونى، أصل الأشياء وشرط وجودها.

• • •

فى التراث العربى، الكلمة كانت شعرًا قبل أن تكون سيفًا. المعلقات لم تكن حجارة أو دماء، لكنها أبيات صاغها شعراء القبائل ليُخلّدوا وجودهم. كانوا يقولون: «الكلمة تبقى حيث يفنى الجسد». ومنذ ذلك الزمن، ظل الشعر ديوان العرب، وصكوك الصلح بينهم، وأحيانًا ساحة معاركهم إن لم يُحسنوا لفظها أو يتقنوا غزل الحرف بعناية.

• • •

والكلمة فى زمن الهاشتاج تحولت إلى أسلحة متطورة للكراهية كثيرًا، وللمحبة والسلام قليلًا جدًّا. فى زمن لم يعد العالم يعرف فيه حدودا، خرجت علينا وسائل التواصل الاجتماعى كأنها وعد بالحرية، بوابة مفتوحة نحو فضاء واسع يربط القلوب قبل العقول، ويجمع الغريب بالقريب، ويعيد صياغة علاقتنا بالكلمة والصورة. بدت كحلم إنسانى جديد، كمدينة افتراضية لا تنام، تتجاور فيها الثقافات، وتلتقى فيها الأصوات، وتتشابك فيها الأيادى ولو من خلف الشاشات أو منصات التواصل.

• • •

لكن الحلم لم يطل. إذ سرعان ما اكتشفنا أن هذه المدينة لا يسكنها الأصدقاء وحدهم، بل تحوّلت إلى غابة تسرح فيها جيوش من الظلال. وجوه بلا ملامح، وأسماء بلا أصحاب، حسابات تنبض بالكراهية أكثر مما تنبض بالحياة. كأنها أشباح رقمية تُرسل فى عتمة الليل لتهاجم من يجرؤ على رفع صوته، أو لتبنى أسوارًا وهمية بين أبناء المجتمع الواحد. وفجأة، انفجرت الكلمات المفخخة بالقنابل الذكية، وصار الفضاء الافتراضى مرآة مشوّهة تعكس قبح ما يُدسّ من سمٍّ فى الحرف، ومساحات، بل ساحات لمعارك غير مرئية. لم نعد نعرف إن كان من يُحدثنا هو ذاك الجار القديم فى حينا حيث تسكن المحبة، أم آلة مبرمجة فى قبو لمبنى حديث جدا! فتتدفق الكلمات كالسيول، بعضها صادق، وكثير منها كاذب يصاغ بدهاء، أو ربما أحيانا بغباء شديد، لكنه يلبس قناع الحقيقة فيتسلل إلى وعى بعضنا دون أن يشعروا، وهنا تتحول الكذبة إلى كلمة عابرة للحدود والطبقات والمجتمعات والطوائف، وتتحول إلى قنبلة دخان تملأ الأفق فتغطى القلوب قبل العيون.

• • •

إنه زمن تتساوى فيه قوة الرصاصة مع قوة التغريدة، وزمن تُبنى فيه الحروب بوسم (هاشتاغ)، وتُهدم فيه المجتمعات بخبر كاذب. وسائل التواصل لم تعد ساحة للحوار، بل معركة يومية صامتة، لا تُسمع فيها أصوات المدافع، لكن يُرى أثرها فى البيوت الممزقة، فى السمعة المهدورة، وفى الخوف الذى يسكن النفوس. فالكلمة التى كانت بردًا وسلامًا قد تصبح بارودًا مخزونًا ينتظر من يشعله بعود ثقاب رخيص. وما التاريخ إلا شاهد على الكلمات، حين تكون «الملافظ سعد»، أو تكون هى نفسها مساحات للجسور أو الجدران أو حتى الكراهية.

 

كاتبة بحرينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved