حين عصفت أمريكا بالعولمة
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 24 سبتمبر 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
قادت الولايات المتحدة النظام العالمى بشقيه السياسى والاقتصادى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. ودفعت واشنطن لتأسيس منظمة الأمم المتحدة والبنك وصندوق النقد الدوليين، واستمرت الجهود الأمريكية وتضاعفت عقب انهيار الاتحاد السوفيتى فى مطلع تسعينيات القرن الماضى التى أطلق عليها البعض «العولمة» فى إشارة إلى كثافة التواصل والسفر والاحتكاك بين دول وشعوب وشركات ومصانع وأفكار العالم المختلفة، وإن طغى عليها النمط الأمريكى.
من قبل وصول الرئيس دونالد ترامب للحكم عام 2016 وتبنيه مبدأ أمريكا أولا، أدركت قطاعات أمريكية واسعة أن فوائد العولمة لا تساوى حجم الخسارة التى لحقت وتلحق ببلادهم على الأصعدة السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
لم يبدأ عصف أمريكا للعولمة مع انتشار فيروس كوفيد ــ 19، ولا مع وصول ترامب للحكم، المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون كانت تعهدت كذلك بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة مع الدول المطلة على المحيط الهادى، وكان السيناتور اليسارى الديمقراطى بيرنى ساندرز هو صاحب نداء عودة المصانع الأمريكية من الصين والمكسيك وغيرهما للأراضى الأمريكية حماية لعمال المصانع الذين فقد مئات الآلاف منهم وظائفهم التى لا يعرفون غيرها.
ولم تكن السياسات المقيدة للمهاجرين وغير المرحبة باللاجئين وليدة مواقف ترامب فقط، بل هناك صيحات احتجاج أطلقها فلاسفة أمريكيون من العيار الثقيل مثل صامويل هانتنجتون الذى كتب عام 2004 كتابا مهما عنوانه «من نحن» حذر فيه من تحديات الهوية الأمريكية البيضاء البروتستانتية من تنوع الأعراق الذى تشهده الولايات المتحدة بلا توقف، وفند هانتنجتون وغيره فرضية أن أمريكا بلد من المهاجرين مجادلا بأن جوهر أمريكا وأساسها الفكرى كان الاستيطان وليس الهجرة.
ولم يتسبب ترامب فى هذا كله، بل ربما تم انتخابه لهذه الأسباب بصورة أو أخرى.
****
تصور الفكر السياسى الأمريكى فى مجمله أن العولمة وإزالة حواجز التجارة والثقافة العالمية من شأنها دفع دول العالم إلى تبنى نظم أكثر انفتاحا فى المجال السياسى مع اتساع هامش الحرية والديمقراطية التمثيلية، إلا أن الواقع تركنا مع صوة مختلفة تماما. فلا الدول المرتبطة بالعولمة أصبحت أكثر ليبرالية ولا أكثر انفتاحا، الصين نموذج صارخ للاستفادة واستغلال العولمة دون التراجع فى درجة الاستبداد الحكومى القوى ضد أى معارضين للحزب الشيوعى الصينى. ولا يختلف الأمر كثيرا مع روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية وتركيا وفيتنام وغيرهم.
فى الوقت ذاته أدى الفشل الأمريكى الذريع فى التعامل مع فيروس كوفيد والذى نتج عنه حتى كتابة هذا المقال وفاة أكثر من مائتى ألف شخص وإصابة سبعة ملايين أمريكى آخرين بالفيروس إلى عدم جاذبية النموذج الأمريكى للكثيرين حول العالم.
فى الوقت ذاته لا توفر الدول الأوروبية بديلا يعتد به مع فقدانها الريادة العالمية منذ عقود طويلة اعتمدت فيها على الحماية الأمريكية، ولا يمكن لروسيا والصين ملء الفراغ الناتج عن ارتباك وغياب القيادة الأمريكية فى مختلف الملفات العالمية المهمة كالمناخ أو نزع السلاح أو نظم التجارة والتنظيم الدوليين.
***
كشف فيروس كورونا هشاشة العولمة وما قامت عليه من اعتماد دولى متبادل فى خطوط الإنتاج والاستيراد والتصدير والمشاركة فى الأفكار، ومثل شعار «صُمم فى كاليفورنيا وصُنع بالصين» والذى نجده على منتجات شركة آبل الأمريكية، شعارا عاكسا لواقع جديد.
إلا أن ما نشهده، ولا يتوقع له أن يختفى قريبا، من ارتباك فى خطوط الملاحة الدولية وتأثيراتها الواسعة على سلسلة الإمداد اللازمة للإنتاج Supply Chain بسبب تفشى فيروس كورونا وتوقف ملايين المصانع عن العمل حول العالم، عرى هشاشة نظم العولمة التجارية. وأصبح على سبيل المثال، على المواطن الأمريكى أن ينتظر لشهور بعد شراء ثلاجة أو فرن جديد حتى يتم تسلمها.
من ناحية أخرى، أظهرت تداعيات انتشار فيروس كورونا كذلك أن عولمة أمريكا تركت المجتمع الأمريكى أكثر اتساعا فى فجوته بين فئة شديدة الفقر بالمعايير الأمريكية وفئة شديدة الغنى. وعبر نصف الأمريكيين أن أوضاعهم المالية والاقتصادية تأثرت سلبا وازدادوا فقرا بسبب تداعيات فيروس كورونا.
***
منذ وصوله للحكم، يتساءل الكثير من الخبراء عن محركات الرئيس ترامب فى قضايا السياسة الخارجية، وضاعف من صعوبة السؤال غياب وجود إطار أيدولوجى ينزع إليه ترامب أو يلتزم به. وفى الوقت الذى تبدو فيه الفوضى والجهل كأكثر ما يميز مواقف ترامب تجاه قضايا السياسة الخارجية، ترجم بعض علماء السياسة سياسات ومواقف ترامب كانعكاس لتبنيه مبدأ «أمريكا أولا»، وخلال خطابه الأول يوم تنصيبه رئيسا، عكس ترامب رؤية شعبوية أمريكية تركز على قصور وسلبيات ونتائج ظاهرة العولمة التى وجهتها وقادتها بالأساس الولايات المتحدة، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين خلال العقود الأخيرة، لكنها لا ترد على سبب اتخاذ بعض السياسات التى لا يجمع بينها أى نسق أو إطار واحد.
وأظهرت السياسات الخارجية التى اتبعها ترامب خلال سنوات حكمه وحتى الآن التزاما جادا بمواقف معادية للعولمة ولمظاهرها المختلفة.
لا يعرف أحد ما ستئول إليه نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة. وبالطبع لن تتوقف حركة التجارة بين أمريكا وبقية العالم، ولن يقل الاستثمار الأمريكى فى الخارج، ولن تتوقف حركة الطائرات من وإلى المطارات الأمريكية، فلا تملك أمريكا أو غيرها رفاهية الانعزال الذى أصبح مستحيلا فى ظل تعقيدات عالم اليوم والذى كشفتها بصورة مفاجأة لم يتوقعها أحد انتشار ومحاربة فيروس كورونا، لكن هل ستبقى الدول هى أهم لاعب فى الساحة العالمية فى عالم أقل عولمة عما كان؟ هل سيلعب أشخاص وما يمثلونه أدوارا لا نعرف حدودها بعد، هل يزداد دور مارك زوكربيرج، وأليون ماسك، وبيل جيتس، بحكم زيادة الاعتماد على التكنولوجيا؟ أم أن أزمة كوفيد ــ 19 المستمرة ستفضى إلى مجتمعات أكثر انغلاقا مع تضخم غير مسبوق فى دور ووظيفة الدولة حتى فى أكثر المجتمعات ليبرالية وديمقراطية.