وهن القوة الناعمة لمصر

خالد عزب
خالد عزب

آخر تحديث: الأربعاء 24 سبتمبر 2025 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

تعد مصر من الدول القليلة فى العالم التى لديها مقومات القوة الناعمة بصورة مركبة، لكن موقعها فى مؤشرات القوى الناعمة لا يتناسب مطلقا مع هذه المقومات المركبة، وهو ما يشير إلى افتقاد مصر لسياسات ترصد وتحلل وتبنى استراتيجيات للقوة الناعمة المصرية، مصر لا تعير هذا أى اهتمام سوى الكلام العارض هنا وهناك حول القوة الناعمة ومعظمه يرتكز على الماضى لا الحاضر، مصر شغلت فى العام 2023 المركز 39 فى مؤشر القوى الناعمة دوليا، وذات المركز فى العام 2024، بينما قفزت للمركز 38 فى العام 2025، والرقم قد يبدو مقنعا للبعض لكن فى حقيقة الأمر وللأسف يسبق مصر عدد من الدول العربية الحديثة، التى لا تمتلك ما لدى مصر، هذا ما يجعلنى أقول إن فاعلية القوة الناعمة المصرية محدودة، ويعود هذا إلى ضعف المؤسسات الثقافية المصرية بدءا من دار الكتب إلى المجلس الأعلى للثقافة، ومشكلتها ليست فى كونها تنتج باللغة العربية، بل فى فاعليتها على الصعيد الوطنى والعربى والدولى، ودورها البحثى والخدمى، وعلى الرغم من أن المجلس الأعلى للثقافة فى عهد الدكتور جابر عصفور حقق نجاحات نسبية على الصعيد العربى، إلا أن هذا النجاح ارتبط بشخص له حضور فى السياق الثقافى العربى، وهذه واحدة من أزمات القوة الناعمة لمصر وهى ارتباطها بأفراد وليس بمؤسسات وسياسات، كما أن إدراك مصر أن إحياء مكتبة الإسكندرية سيضيف لقوتها الناعمة قوة لها وزنها على جميع الأصعدة، وهو ما حققته المكتبة فى أول عقدين لها، غير أن تراجع إدارة المكتبة عن الشراكات الدولية والبنية البحثية التى أعطتها مكانتها أفقدها الكثير، هذا التراجع أدى إلى تراجع مكانة مصر كقوة ناعمة.

 


إذن ما هى القوة الناعمة؟

 


فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، ظهرت فكرة جديدة فى أدبيات السياسة الخارجية من أفكار عالم السياسة الأمريكى جوزيف ناى، فمن وجهة نظره القوة الناعمة «هى قدرة الدولة على التأثير على تفضيلات وسلوكيات مختلف الجهات الفاعلة على الساحة الدولية من خلال الجذب أو الإقناع بدلا من الإكراه» من هنا صارت القوة الناعمة كأداة تشمل العديد من المعطيات، مثل العلامات التجارية (البرندات) التى صارت تعبر عن قوة أى دولة مثل نموذج الشركات الكورية، فى حين أن العلامات التجارية لشركات مصرية لها صدى دولى محدود، وهذا ما يرد على القول بأن الثقافة والقوة الناعمة معها ليس لهما مردود اقتصادى، فى حين أن مؤشر القوة الناعمة الدولى يربط بين القوة الناعمة ومردودها الاقتصادى على الدول، هذا ما جعل صندوق النقد الدولى فى السنوات الأخيرة، يدفع إلى إجراء تحليلات لبيانات القوة الناعمة ومردودها الاقتصادى.


قوة مركبة غير فاعلة

 


إن ما تركن إليه مصر فى قوتها الناعمة هو تراثها، ولكن للأسف الشديد بذلت الدولة المصرية مجهودا كبيرا فى مشروع المتحف الكبير، لكن على الصعيد الآخر مكملات المشروع غير موجودة، ومنها مثلا كيفية إدارة المتحف الأثرية، كيف سنقدم المتحف للعالم، ما هى الفلسفة التى سنقدمها عبر المتحف، المتحف كمكان له جاذبيته، لكن المكان مع انتهاء حفل الافتتاح سينتهى معه تأثير المتحف الفعلى، قوته الناعمة تأتى من استمرارية هذا التأثير، والأهم كيف نؤثر دوليا بآثارنا، ونحن لا نمتلك الريادة فى علم المصريات، ثم كيف نؤثر دوليا والمصريين لا يعرفون تراثهم وبالتالى تاريخهم، فالمفترض أن السائح حينما يسأل أى مواطن مصرى سيجده ملمًا بتراث وتاريخ وطنه، كيف سنؤثر دوليًا وممارسات الدولة فى التعامل مع الآثار سلبية، كإخراج عدد من الآثار من سجلات الآثار المصرية، وهدم مناطق أثرية كمقابر القاهرة الإسلامية مع إنكار أثريتها، ويظن البعض أن تأثير هذا جاء من المهتمين داخل مصر، ونسى هؤلاء أن تراث مصر تحت المنظار الدولى، فصار فى الأوساط الأثرية والسياحية الدولية استهجان واسع لهدم مقابر تراثية لو فى بلد آخر لضمت لقائمة التراث الدولى.
إننا أمام إهدار مستمر للقوة الناعمة لمصر، بدءا من إهمال الموالد التى يمكن أن تكون مهرجانات جاذبة للسياحة وداعمة لبيع المنتجات الحرفية، إن زيارة بعض سفراء الدول الأجنبية لمولد السيد البدوى ليس للمتابعة فقط، بل لأن مثل هذه المهرجانات لها أبعاد ثقافية جاذبة، فهل نحن فكرنا فى كيفية تنمية الموالد وصياغتها وتنظيمها بحيث تكون قوة ناعمة لمصر، ولا ننسى أنها كانت وراء خروج أم كلثوم ومحمد فوزى كمطربين، بل إن الإنشاد الدينى فى مصر وهو المهمل حاليا يمثل قوة ناعمة مهملة، فهو يخاطب ما يزيد على مليار مسلم حول العالم، كما هو مع قراء القرآن الكريم، هذا ما أدركه الأزهر فى شهر رمضان الماضى حين دفع بشبابه من القراء لإمامة صلاة التراويح التى نقلت عبر وسائط التواصل الاجتماعى للعالم، ولو استمر الأزهر فى الاستثمار فى هؤلاء الشباب سيعيد لمصر مجدها فى تلاوة القرآن الكريم.
ما يدركه الأزهر هل تدركه المؤسسات الأخرى، للأسف لا، فقد أُجهض مهرجان التمور فى واحة سيوة بعد دورتين، لأسباب تافهة، بدلا من أن تقوم وزارتى السياحة والزراعة بتنميته، وبالتالى إعلاء رتب التمر المصرى دوليا مع ضمان زيادة الإقبال عليه، القوة الناعمة لا ترتكن فى أى دولة على ما هو تقليدى فحسب بل تذهب إلى كل ما هو جديد، فالسياحة البيئية فى سيوة تحقق نجاحات ولكنها لن تحدث قفزات إلا إذا جرى دعمها والحفاظ على طبيعتها، فالفنادق البيئية هى الأكثر طلبا فى العالم حاليا، وهذا بُعد غائب فى مصر، لكننا فى هذا السياق لابد أن نقر أن تأثير مصر تراجع أيضا بسبب ضعف قدرات جامعاتها، وضعف تصنيفها دوليا، لكنها فى المستقبل القريب ستتراجع أكثر مع إضعاف قدراتها فى الدراسات الإنسانية، كيف لنا أن نتحدث عن مساهمات مصرية فى الفكر المحلى والإقليمى والدولى مع إلغاء مادة الفلسفة فى المدارس الثانوية ومن ثم سيكون الإقبال على أقسام الفلسفة بالجامعات فى السنوات القادمة محدودا، فى الوقت الذى ظلت مصر لسنوات يشار لها بالبنان بفضل مفكرين من أمثال: محمد عبدالهادى أبو ريدة وزكى نجيب محمود وعبدالرحمن بدوى ورشدى فكار وغيرهم.
كنا نحن نقود والآخرون يتبعون مصر، فاليونسكو حين كانت تريد خبيرًا فى الدراسات الإنسانية كانت تجد مصريا يتصدر المشهد، الآن المغاربة والتوانسة والجزائرين يتصدرون، وهناك فى مصر مشروعات لفلاسفة يمكن أن نستثمر فيهم، لكنهم مهملون، وهذا حظ مصر فى العديد من المجالات لأنه لا توجد رؤية للقوة الناعمة، إن الزوايا الضيقة التى تنظر بها مصر للقوة الناعمة جعلت قوتها الناعمة مهدرة، من قال إن كرة القدم لا تصنف ضمن أدوات القوة الناعمة، فالنادى الأهلى أقوى أدوات القوة الناعمة التى لها دور فعال، لذا دعمه واجب فى هذا السياق، ومن ينظر إلى الريف المصرى عليه أن يدرك أن به قوة ناعمة لم يجر استغلالها، مثله مثل المطبخ المصرى تراثه يولد فرص عمل وفرص واسعة للتصدير، وهذا ما نطلق عليه ضمنيا اقتصاديات التراث، وهو باب غائب عن مصر، لا تدركه جيدا، إن ما لا يتحقق بالقوة الصلبة يمكن تحقيقه عبر القوة الناعمة، لكننا فى ظل تراجعات مستمرة فقدنا الكثير، وأعظم ما فقدناه هو المصداقية والجدية الذين كانا إلى سبعينيات القرن العشرين إحدى أدوات القوة الناعمة لمصر، ليحل محلهما الفهلوة والتفاهة، فمن أم كلثوم إلى أغانى المهرجانات بون شاسع، هذا البون هو ما فقدته مصر فعليا من قوتها الناعمة فى الفن والسينما، لذا هل حان الوقت لأن تقوم مصر بمراجعة صادقة لا مواربة ولا مجاملة فيها؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved