رائحة المكان
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 24 أكتوبر 2012 - 9:20 ص
بتوقيت القاهرة
فى هذا المكان كان يوجد المطعم الصغير بموائده الخمس. تعودت أن أنزل عليه ضيفا مرة أو مرتين فى الأسبوع لأتناول غذاء متأخرا. معروف عنه، فى ذلك الوقت، أنه لا يخدم زبونا يأتى متأخرا عن موعد الإغلاق، إلا أنا وصديقى صلاح ماميش. كان سى المبروك صاحب المطعم، هو الطاهى، وإذا وصلت متأخرا هو الطباخ والنادل فى آن واحد.
●●●
غبت عن هذه المدينة سنوات، وحين عدت أول مرة بعد عشر سنوات لم يسعفنى الوقت لزيارة مطعمى المفضل. تغيبت سنوات أخرى وعدت وفى نيتى ألا تضيع منى الفرصة مرة أخرى. ذهبت إلى المكان يدفعنى الفضول وتقلصات الجوع لنسرع الخطى أنا ورفيقى، ولنلحق بالمطعم قبل أن يغلق بابه الخشبى الصغير. غلبنا الإحباط حين وصلنا. لم نجد للمطعم أثرا. اختفى هو والبناية التى كان يحتل أمتارا منها. وقفت أمام باب المبنى، وطال وقوفى، مما أثار فضول حارسها. توجهت ناحيته فاطمأن وسألته عن عمر البناية فقال خمس سنوات. استفسرت عن سى المبروك فقال أنه لا يعرفه فهو قادم لتوه إلى المدينة من الريف. لم أفهم ساعتها السبب وراء هذا الندم على غيابى الطويل الذى حرمنى من زيارة سى المبروك ومطعمه، ولماذا هذا الشعور بفقدان شىء عزيز جدا لا تربطنى به علاقة دم أو مصلحة.
●●●
ذات يوم قال لى رئيس عمل كان خبيرا فى السفر والمدن والجمال والفن، قال فيما يشبه النصيحة، لا تعود إلى مدينة أحببتها حبا جما «فلن يروق لك ما تغير فيها». لن يروق لك الجديد مهما كان جميلا ومبهرا. ولن يروق لك القديم حتى لو ظل جميلا ومبهرا. حفظت النصيحة، وقد تأكدت صحتها مرة بعد أخرى فأنا من هواة العودة. أعود دائما. يشدنى للعودة ما هو أكثر من الشوق. يشدنى شعور من يعرف أن الماضى كان أكثر امتاعًا من الحاضر. كان أحلى وأنعم وكان كريما معى وإن كان دائما متسرعا. جربت، وأعرف كثيرين ما زالوا يحاولون، العودة إلى الماضى، وفى كل مرة عدت إليه وجدت جزءا قد اختفى، أو تغيرت معالمه. وفى كل مرة عدت إليه غلبنى شعور قوى بأننى غير مرحب بى فكلانا للوهلة الأولى لم يتعرف ماديا على الآخر، أبدو للمكان غريبا فأنا أكبر سنا وأقل شعرا وربما أثقل وزنا. والمكان يبدو غريبا فالشارع أضيق والمبانى المطلة عليه أعلى والرجال نبتت لأكثرهم لحى. أحدنا أنا والماضى وربما كلانا رافض للآخر الذى سرق منه بعض خياله وجزءا من ماضيه.
●●●
هناك أماكن تتغير معالمها ويبقى عبقها. قال الأوائل الشىء الكثير عن المادة، ويردد بعض المعاصرين رأى لافوازييه فيها. المادة موجودة دائما. موجودة منذ بدء الخليقة وباقية إلى نهايتها، هى فقط تتغير من شكل إلى شكل آخر. وأنا أقول، وكذلك عبق المكان ومجموعة الذكريات التى شاركت فى صنعها. هى أيضا باقية ما بقيت فى الفرد منا حاسة الشم، وباقية ما بقى فى المخ والقلب قدرة على الاحتفاظ برائحة المكان وأحاسيس تخلقت فيه وبقيت فى فضائه لتحمى، من غدر الزمن، لحظة من الماضى.