بلاغة الصمت
العالم يفكر
آخر تحديث:
الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 11:15 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «الصادق الفقيه» يتناول فيه أهمية الصمت وبلاغته حينما يكون قادرا على إيصال المشاعر، ويتحدث عن أنه إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
تختزن الثقافة العربية قِيَمًا مُختلفة، وربما مُتغايِرة لدرجة التناقض، فى توصيف أنماط سلوكنا التواصلى، وترميزاتنا لإيصال المعنى للمتلقى. وإذا قايسنا التعبير عن أنفسنا بمقاييس كمية، فالكلام بثمن الفضة، بينما الصمت بقيمة الذهب. فى حين أن المعرفة مبنيَّة على إحسان العبارة، لأن المرء مخبوء تحت لسانه، ويُعْرَف الإنسان بما يقوله. غير أن أكثرنا فصاحة وشاعرية تُلجِئه كثافة الأحاسيس إلى لطائف الصمت تعبيرا عن دقة اعتمالها فى نفسه.
مَن عَرَفَ جُرأة الشاعر المفوه نزار قبانى لا يخاله يسأل سيدة تطلعت إلى سحر عباراته: «هل تسمعين أشواقى عندما أكون صامتا؟ إن الصمت يا سيدتى هو أقوى أسلحتى.. هل شعرت بروعة الأشياء التى أقولها عندما لا أقول شيئا؟» وكأنى به قد أحالها إلى حكمة العرب القديمة القائلة إن «فى الصمت البلاغة»، أو أشَار لها على قول توماس كارليل إن «الصمت أكثر فصاحة من الكلمات». فالصمت من ذهب، عندما يكون أكبر تأثيرا من الكلام فى إيصالِ المشاعر والأحاسيس، وما يخطئه الكلام فقد هبط إلى ما دون الفضة.
فهل يتبين لنا من كل الميراث المُتداول الأهمية الكبرى للصمت؟ يقول أهل الفلسفة وعِلم النفس إن معظمنا لا يحبون الصمت، لأنه يجبرنا على مُواجَهة أنفسنا. وإذا لم نمتلك الشجاعة لمعايشته سنجده يحدِق فينا، لأنه هو الفراغ، الذى لا نقوى على مَلئه. وقد يقول قائل إننا نخاف من الصمت، لأننا نساويه مع عدم الأهمية. نعم، نُرِيدُ دائما أن نُسْمَع ونُرَى، لأننا نطمح إلى أن نجعل أنفسنا أكثر مُلاءَمة لمحيطنا، ونرغب بأن تكون لنا مكانة فى عيون الآخرين. فالرغبة فى جعل أنفسنا جديرين بالثقة يُمكن أن تكون قوية جدا، ولكن فى سعينا إلى أن نُسْمَع ونُلَاحَظ ويَفْتَكِرُنَا الآخرون جيدا، نحن غالبا ما نُغْرِق صوتنا الداخلى ونترك ظاهرنا يتكلم.
لكلٍ مِنَا فضاؤه الخاص، الموشى بمنظومة القيَم المغروسة والموروثة والمُكتسَبة، الذى يجب علينا حراسته ضمن الجدول الزمنى الخاص بنا؛ إنه أكثر أهمية من أى شىء نملكه، لأن فيه القوة والهدف والثقة الذاتية لنكون الشخص الأفضل لأنفسنا وللآخرين، نحن بحاجة إلى وقتٍ للصمت فى فضائنا الخاص. إننا بحاجة إلى وقت فى عصرنا المضطرب هذا لامتلاك قيمة الصمت، لنتمكن من إحضارها معنا إلى أعمالنا اليومية، ونتعود على العيش بإحساس السلام من خلالها، حتى فى خضم الظروف المُجْهِدَة.
***
ويضيف الكاتب أن وظيفة التفكير الذاتى هى خلق المعنى، لأنه فى صميم ما يعنيه هو أن يكون الإنسان إنسانا. وأننا يُمكن أن نكرِر السؤال: لماذا الصمت من ذهب؟ والسبب الذى ينبغى أن نطرحه كمحاولة للإجابة، يبدأ باستكشاف المساحات الساكِنة، ومن مبدأ أننا نعلم أن التفكير الذاتى مهم للتطور والتعلم. فقد ادعى جون ديوى، عالِم النفس والمُصلِح التعليمى المشهور، أن التجارب وحدها ليست كافية. إنما ما هو حاسم هو القدرة على الإدراك، ومن ثم نسْج المعنى من خيوط تجاربنا. فنحن نتوق إلى الصمت، ولكن أقل صوت هناك، يَصُم أفكارنا أكثر، فكيف يُمكننا غرس احتمال الضوضاء داخلنا؟
يقول تيم باركس، الروائى البريطانى المعروف، إنه تخيَل فى روايته «كليفر»، التى صدرت فى العام 2006، أن رجل الإعلام كليفر، الذى تعوَّد على الصخب والجدل المحموم، يذهب بحثا عن الصمت. إنه يهرب إلى جبال الألب، ويبحث عن منزل فوق خط الأشجار ــ فى الأعلى، فوق مستوى الضوضاء؛ المكان مرتفع جدا، والهواء رقيق جدا، وعندما يبدأ فى التفكير فى الأمر، فإنه يأمل ألا يكون هناك ضجيج على الإطلاق. ولكن حتى فى جنوب «تيرول»، التى تقع على 2500 متر فوق سطح البحر، يجد أن الرياح تئِن على وجه الصخور، ودمه يضرب فى أذنيه. ثم، ومن دون أى مساهمة من عائلته، وزملائه، ووسائل الإعلام، تثرثر أفكاره بصوت عالٍ فى رأسه أكثر من أى وقت مضى. وكما يحدث فى كثير من الأحيان، فإن أقل صوت هناك فى الخارج، يجعل أفكارنا الخاصة تُصيبنا بالصمَم.
إننا نفكر بالصمت، ربما لأننا نتوق إليه، أو لأننا خائفون منه، أو كليهما. فنحن مجبرون على الاعتراف بأن ما نتحدث عنه هو فى الواقع حالة ذهنية؛ متعلقة بمسألة الوعى. وعلى الرغم من أن حضور العالَم الخارجى لا شك فيه، فإن تصورنا له هو دائما ترجمة لرؤيتنا له، ويُخبرنا هذا التصور عن أنفسنا بقدر ما يُحدثنا عن العالَم. فهناك أوقات يكون الضجيج مزعجا حقا، ولنا توق إلى الهدوء والسلام. ولكن هناك أوقاتا لا نلاحظ فيها على الإطلاق مصدر الصوت المزعج. فمثلا، عندما يكون الكِتاب الذى نُطالعه مُمتعا، فإننا لن نُعِير اهتماما لصوت طائرة من دون طيار، أو لماكينة قص العشب البعيدة. وعندما يكون الكِتاب سيئا، ولكن يجب علينا قراءته للامتحان، أو للمُراجعة، فإن الصوت ذاته يعتدى علينا بشراسة.
فالصمت، إذن، هو دائما نسبى، بينما تجربتنا معه هى أكثر جذبا للاهتمام من التأثير الصوتى نفسه. والشىء الأكثر إثارة للاهتمام من الصمت هو أن الذهن مُفْرَغٌ من الكلمات، وخالٍ من الأفكار، ومتحرِر من اللغة، أو هو الصمت الذهنى؛ أى الحالة التى فشلت شخصية كليفر فى تحقيقها على الرغم من رحلته إلى الجبال. وهنا يُمكن القول، إنه عندما يكون لدينا تصور أن الضوضاء تعذِّبنا، فإن الكثير من هذا الضجيج هو ــ فى الواقع ــ فى رءوسنا؛ مثل، الأزيز الذى لا نهاية له من الأفكار القَلِقَة، أو المونولوج الذاتى، فيما يتعلق فى معظم الوقت بتشكيل وعينا. إنه ضجيج فى تفاعل مستمر مع الأساليب الحديثة لما يسمى الاتصالات: الإنترنت، والهاتف المحمول، ونظارات جوجل.
الصمت ونكران الذات
ولهذا، فإن اعتراضنا على الضوضاء فى العالَم الخارجى، فى كثير من الأحيان، هو أنها تجعل من الصعب التركيز على الطنين، الذى ننتجه لأنفسنا فى عالَمنا الداخلى. ومع ذلك، فنحن، على الأقل فى بعض الأحيان، نصل إلى النقطة التى نشعر فيها بأن محرك الفكر خارج نطاق السيطرة. فالأفكار تهرب مع نفسها، تذهب إلى أى مكان جديد، لكنها مدمرة لنفسها بسبب الإصرار على إعادة النظر من حيث كنا قبل ألف مرة من قبل. والكثير من الأدب الحداثى هو حول هذا الطنين، أى حول الوعى، ومحاولة تَصَنُّع جودته الإبداعية.
وللتمثيل، يُمكن أن يفكر المرء فى مؤلفين كبار، أمثال، جيمس جويس، أو فيرجينيا وولف، وأبطال رواياتهم، التى اخترعوها. ومع ذلك، ليس من السهل فهْم كيف يُمكن أن يكون البعض منهم مرهقا ومنهكا بسبب إصراره على أفكاره، التى «دمرت فى وعى كامل» مُنْجَزَهُ الإنسانى. وعلى النقيض من ذلك، يكتب لورانس فى روايته «المرأة المُحِبَة» التى صدرت فى العام 1920، أن نوعا معينا من الأدب فى أواخر القرن العشرين، من صموئيل بيكيت، إلى توماس برنارد، إلى ساندرو فيرونيسى، وديفيد فوستر والاس، وغيرهم كثيرون، يُهيمن عليهم صوتٌ يحاول داويا أن يشرح العالَم، ويندِد ــ باستمرارــ بفضيحة هذا العالَم، وبخيبة الأمل والإحباط المستمر، ولكن أيضا مرتاح مع نفسه، ومسرور بقدرته على أن يكون مُنفتحا، وربما مفضوحا. إنه رهينة ذلك الصوت، الذى صار استغراقه فى الاستجواب والانتقاد، ولفترة طويلة، سجنا له، والذى يسعى الوعى للإفراج عنه بأشكالٍ مختلفة من التخدير والتزوير، وازعاج صوت العقل.
***
إن صوت العقل هذا هو أيضا مصدرٌ للتقدير الذاتى، وهذا هو الصيد الذى يوجد فى الفخ. فالعقل يُسَرُّ بتطور تفكيره، ويرغب فى أن يصل المونولوج إلى هذه الغاية، ولكنه فى الوقت نفسه لا يريد لهذا المونولوج أن ينتهى. إذ إنه إذا انتهى، سيفقد العقل الهوية؛ إنه يتوق للصمت ويخاف الصمت. فالعاطفتان تنموان بصورة أقوى معا. وكلما تاقت إحداهما إلى الصمت أكثر، خشيت الأخرى أكثر فقدان هويتها. على سبيل المثال، عندما يعتزم الشخص إجراء تغييرٍ جذرى فى حياته، سيقرِّر الذهاب للعيش وحيدا فى مكانٍ خالٍ، أو يعتكف فى خلوة لعبادة صامتة. غير أنه سيتردد، لأنه يخشى لحظة التغيير.
لذلك، ترتبط أفكارنا عن الصمت بأسئلة نكران الذات، والتقدير الذاتى. ومثلما تكون نهاية المونولوج بمثابة دعوة مُرَحَبٍ بها، ولكنها أيضا مخيفة، كخوف الأطفال من فكرة الذهاب إلى النوم. إن رغبتنا فى الصمت، فى كثير من الأحيان، لها علاقة بالصمت الداخلى، وليس ثمة صلة خارجية، أو ربما مزيج من الاثنَين. فالضجيج ــ أو على الأقل المشاركة فيه، التى تمنع الصمت الداخلى ــ يُثير غضبنا. لكن غياب الضوضاء يضعنا فى مُواجَهة صوت عالٍ فى رءوسنا. هذا الصوت هو العنصر التأسيسى لما نُسميه الذات. وإذا كنا نريده أن يصمت، فهل نتوق بذلك إلى نهاية هذه الذات، أو ربما لاندثارها؟
وختاما يضيف الكاتب أنه قد يصبح الحديث عن الصمت حديثا عن الوعى، وعن الطبيعة الأنانية للإنسان، وعن المعضلة الحديثة للحياة بشكلٍ عام. إذ إن الكلمات، التى يستخدمها الغربيون باستمرار، والروايات التى يكتبونها، تعزِّز دراما الذات، أو «الفردانية»، التى يحتفون بها، بينما هناك الكثير من «العزاء»، الذى نتخذه طريقة للكتابة والسرد فى ثقافتنا العربية، الذى يُمكن أن يحوِّل الألم العاطفى إلى شكلٍ من أشكال الترفيه والحِكمة المؤثِرة فى رؤيتنا للعالَم. وكثيرا ما يجعلنا الصمت والتأمل نتساءل، بعد أن نقف بشكلٍ غير متوقع، ونَفْصِل جيدا بين برهة السكون وملاذ الصمت، عَمَّا إذا كان هناك شىء عميق فى ثقافتنا هذه ــ حتى فى أعظم إنجازاتها ــ قد جرى عكسه فى الكثير مما نقرؤه؛ سردا ينطق بالكلمات، أو فنا شفيفا يشِعُ جماله من خلال بلاغة هذا الصمت.
النص الأصلى