قرحة فى المعدة

أسامة غريب
أسامة غريب

آخر تحديث: الجمعة 24 أكتوبر 2025 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

فى عيادة أستاذ الجهاز الهضمى كنت أجلس أنتظر دورى عندما انفتح الباب وخرج من حجرة الطبيب رجل أربعينى يضع «بيريه» فوق رأسه. كان وجه الرجل مألوفًا ويبدو أنه يمثل فى السينما أو فى المسرح ويأخذ بعض الأدوار الصغيرة. خرج الرجل يضرب كفًا بكف، ثم نظر إلينا وأشار نحو غرفة الطبيب قائلا: الدكتور يقول لى: ما تزعّلش نفسك حتى لا تتفاقم القرحة. هل يظن حقا أننى أساهم فى تخريب صحتى بتعمدى أن أزعّل نفسى؟..هل تظنون أنتم أننى أفعل هذا؟ نظرنا إليه فى دهشة، لكن أحدا منا نحن - الجالسين - لم يحر جوابًا. استمر يتطلع إلينا ثم قال: إننى أنحنى على الحوض فى الحمّام كل صباح لمدة ساعة أكاد أطرد أحشائى مع العصارة الحمضية الحارقة، وفى معظم الأيام أتقيأ دمًا، ولا تخفى عليكم الآلام المصاحبة لكل هذا، فهل يمكن أن يكون ذلك من صنعى؟ قولوا للطبيب أن يطلب من الناس ألا يزعلونى، فهذا أجدى من أن يقول لى: ما تزعّلش نفسك!
قال الرجل هذا ثم تهالك على مقعد إلى جوارى وفى يده روشتة الطبيب. أجال النظر فى الجالسين بالصالة ثم استأنف حديثه: منذ يومين كنت أسير بالشارع عندما أتت من خلفى سيارة مكشوفة بها مجموعة من الشباب، وبدون سبب أخرج أحدهم يده للخارج ثم ضربنى بقبضته من الخلف فى كِليتى ثم انطلقوا بالسيارة ضاحكين. الضربة كادت تقتلنى من شخص لا يعرفنى ولا أعرفه. بدا الرجل متأثرا جدا وهو يواصل: أنا أعلم أن الحياة مليئة بالسخافات وأن كل الناس تتعرض لأشياء من هذا القبيل، لكن ما حيلتى إذا كنت لا أستطيع أن أتحمل قدرا كبيرا من هذه الأشياء فى فترة وجيزة.
ويبدو أن الرجل قد وجد راحته فى الحديث فراح يكمل: صديقى.. أعز أصدقائى اقترض منى مبلغا من المال قال إنه يحتاجه لإنقاذ أبيه من الموت حيث تلزمه جراحة عاجلة.. هل كنت أرفض أم أمد له يدى؟ هو يعلم أننى لست غنيًا وأن الفلوس التى أخذها منى هى ذخرى للأيام الصعبة القادمة عندما تتقدم السن وتضعف المناعة وتهجم بقية الأمراض، ومع ذلك فقد اخترع تمثيلية الأب المريض وأخذ القرشين ولم يفكر فى السداد! لقد حدثنى البعض بأنه كان ينبغى أن آخذ عليه وصل أمانة حتى أضمن حقى، لكن يا أسيادنا، هل هناك من يأخذ إيصالا من أقرب أصدقائه.. أى حياة هذه؟ لقد خدعنى، فهل يعنى هذا أننى رجل مغفل أم يعنى أنه هو الخائن.. قولوا لى بربكم حتى لا أجن.
نظرت حولى فرأيت الناس تتطلع إلى الرجل وقد تركوا ما يشغلهم وانصرفوا تمامًا إلى الاستماع لما يقول. خلع البيريه فظهر شعره الناعم الذى يختلط أبيضه بأسوده وتبدّت وسامته وهو يلوح بيده قائلا: حتى زوجتى لم تقاتل فى صفى أبدا.. كانت دائما تحارب على الجبهة الأخرى وتمد الشياطين الذين يصيبونى بالصداع بذخيرة من النكد لا تنفد. لم أصدق يوم قالت لى: دع عنك حكاية الرجال القوامين على النساء وهذه الحواديت التى اخترعتموها لتتحكموا فينا وتذلونا.. أنا أعمل مثلك ولا أحتاجك فى شىء. سكت الرجل قليلا فتطلعت إليه الأنظار ليكمل الحكاية. قال: دهشتى من كلامها كان سببها أنى لم أحدثها فى شىء مما ذكرت وإنما قلت لها فقط: ممكن كُباية مية من فضلك.. آه والله هذا ما قلته.. كنت أريد أن آخذ قرص الدواء. وسبب الدهشة أيضا أنها صحيح تعمل ولها وظيفة، غير أنى لم أسمح لها بإنفاق مليم واحد على البيت منذ تزوجنا، ودائمًا أتكفل باحتياجاتها.
قطع استرساله وسألنى متشككًا: هل أنت معى أم أننى أكلم نفسى؟ هززت رأسى بما يفيد متابعتى لحديثه. قال: والله ما زعلت من رغبتها فى التحرر ولا من اضطراب تفكيرها.. أنا حزنت من غياب الإنصاف..الإنصاف الذى سيقتلنى الشوق إليه.. لو أنها تريد لنفسها ولكل إنسان فى الدنيا أن يكون مسئولا عن نفسه فقط ولا يضع أحدا تحت كفالته، فوالله لم أكن لأقف فى طريقها لأنها بهذا تعفينى من عبء مسئوليتها ونفقاتها وطلباتها التى لا تنتهى.. لكن لو كانت صادقة فيما تدعيه فلماذا تأخذ فلوسى إذا؟ لماذا لا تصرف على نفسها وتتحرر من الرجل الشرير الذى تزعم أنه يستعبدها لمجرد أنه طلب أن يشرب؟! ألا تحقق الفلوس التى أنفقها عليها قدرا من الراحة لها وسياجًا من الحماية تستوجب أن تُظهر بعض الاحترام والتقدير لصاحبها؟.. لماذا تلجأ إلىّ فى الشدة ما دمت أنا مجرد كيس جوافة.. ولماذا إذا لا نعيش معا كصديقين دون أى التزامات فى إطار ما يسمونه بالمساكنة؟.. ثم كيف تسمح لنفسها أن تفعل مثل الفنانات المعتزلات التائبات عن الفن اللاتى يقمن بلعن الفن ثم لا يفكرن فى إرجاع فلوسه!
سكت فجأة ثم قال لى بصوت خفيض: أنا لا أعرف البكاء وربما كان هذا من أسباب الضغط النفسى الذى يفاقم قرحتى.. هل يمكن أن تهبنى شيئا من دموعك وتبكى بدلا منى؟
تسمرت فى مكانى وعجزت عن الرد، ثم وجدتنى أندفع خارجًا من باب العيادة.. وعلى السلم انفجر داخلى السؤال: أنا أستطيع البكاء بسهولة.. فلماذ أصابتنى القرحة أيضًا؟!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved