صلاح عيسى تكريم وإعادة اكتشاف
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
أقامت مكتبة الإسكندرية أمس احتفالية مهمة لتكريم اسم الكاتب الصحفى والمؤرخ الوطنى الكبير صلاح عيسى ولعلها أول مؤسسة ثقافية تبادر بتكريم على هذا المستوى، فعلى الرغم من أن الراحل كان عضوا بالمجلس الأعلى للثقافة إلا أن وزارة الثقافة التى كان رئيسا لتحرير جريدتها لم تفكر فى تكريمه مطلقا، وهذا موقف لا يمكن فهمه إلى الآن، خاصة أن مؤسسة الرئاسة كانت أول مؤسسة نعت الكاتب الراحل مؤكدة أنه كان من حماة ذاكرة الوطن.
وعلى الرغم من مرور عدة سنوات على وفاته؛ فإن هيئات الوزارة لم تقم بواجبها بإعادة طبع مؤلفاته فى سلاسلها الكثيرة وبطبيعة الحال فهى ليست مسئولية الوزير الحالى الدكتور أحمد هنو الذى تولى منصبه قبل فترة وجيزة.
وباستثناء كتاب (الثورة العرابية) الذى طبعته هيئة قصور الثقافة وقت تولى الصديق جرجس شكرى إدارة النشر هناك، فإن كتب العزيز الراحل لا تزال غائبة عن أولويات الوزارة رغم ما تحققه من نجاحات لدى دور النشر التى تملك حقوق طبعها.
قبل عامين كتبت هنا أن صلاح عيسى هو نجم معرض الكتاب عام 2023 بامتياز لأن كتبه الجديدة التى بادرت زوجته الكاتبة الكبيرة أمينة النقاش بجمعها من الدوريات وتجهيزها للنشر بعد رحيله كانت من بين الكتب الأكثر مبيعا ولا تزال.
وهذه ظاهرة فريدة تستحق النظر؛ ففى سنواته شبابه وتوهجه التى ارتبطت بصعود الحركة الطلابية فى العام 1968 ظل التأثير الأكبر لصلاح عيسى مرتبطا بدوائر اليسار أو المهتمين بالشأن العام لكن خلال السنوات الأخيرة امتد هذا التأثير ليشمل قراء جددا أغلبهم من الشباب غير المنتمى بالمعنى الأيديولوجى أعادوا الاعتبار لأعمال صدرت قبل 50 عاما لكنها لا تزال حارة وطازجة بسبب حيويتها الغائبة عن مؤلفات أخرى.
وهناك أسباب عديدة تفسر هذا الصعود اللافت لمبيعات أعمال صلاح عيسى، فالراحل كان رائدا بالمعنى الحقيقى فى جعل التاريخ مادة شعبية، ليست فقط بسبب قدراته المذهلة على السرد والحكى وإنما لأنه فهم التاريخ فهما جدليا بحكم خلفيته الأيديولوجية ونتيجة إيمانه بالطابع الدرامى للتاريخ كمادة قوامها البشر بما يعيشونه من تناقضات وتحولات لابد من فهمها على ضوء علم النفس الاجتماعى الذى كان منسجما مع خلفيته كدراس للاجتماع.
وربما نتيجة هذا الفهم قدم صلاح عيسى التاريخ بطريقة لم يسبقه إليها أحد، فقد كان مؤرخا للعوام قبل أن يتحول تاريخ المهمشين إلى الموضة وقبل أن يظهر مفهوم التاريخ من أسفل، كما أنه استكمل مسارا حركيا فى الكتابة التاريخية التى تدين للمؤرخين الهواة أكثر بكثير مما تدين للمؤرخين المحترفين وأهم من كل ذلك أن كتاباته ظلت منهجية تحترم جميع قواعد التحقيق التاريخى وتعيد بناء الماضى وتقرؤه فى سياقاته، ثم تكتبه بطريقة ساحرة وساخرة تضفى عليه حيوية تفتقر إليها الكتب التى يكتبها مؤرخون أكاديميون.
وإلى الآن لا أفهم كيف لم ينل صلاح عيسى ــ رغم كل ما قدمه ــ التكريم اللائق بموهبته ومسيرته المهنية، كما أنه لم يرشح لجوائز الدولة التى نالها للأسف من هم أقل منه بكثير وأحسب أن التكريم الذى وفرته مكتبة الإسكندرية أمس هو إنصاف متأخر لقيمة كبيرة فى حياتنا، لكنه التكريم الذى ينسجم مع جهوده التى كان يطمح إلى استكمالها، فقد تولت المكتبة حفظ ورقمنة أوراقه وملفات الوثائق التى كانت فى حوزته وأصبحت متاحة أمام الباحثين فى نسخة رقمية ضمن صفحات مشروع ذاكرة مصر المعاصرة على الإنترنت.
ويستحق مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور أحمد زايد الشكر الجزيل على هذا الحدث المميز هو والفريق العامل معه وأولهم الدكتور سامح فوزى، كما لا ينبغى نسيان الدور الذى لعبه الدكتور خالد عزب فى تبنى المبادرة التى قادت إلى البدء فيه وقت أن كان مسئولا عن مشروع ذاكرة مصر المعاصر.
أخيرا تستحق الكاتبة الكبيرة أمينة النقاش الشكر الجزيل فهى لا تكف عن تجهيز مؤلفات جديدة لصلاح عيسى تركها بين دوريات وصحف عديدة كتب فيها على امتداد مسيرته المهنية الحافلة، كما أنها اختارت مواجهة الكثير من الاغراءات ووضعت إرثه فى الأماكن التى تليق بها، وأودعت مكتبته لدى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وأتاحت وثائقه بالمجان للباحثين بالتعاون مع مكتبة الاسكندرية، وهذا ما يليق بصلاح عيسى الذى أتمنى من نقابة الصحفيين ــ التى كان رمزا من رموزها ــ إطلاق جائزة سنوية باسمه تخصص لأفضل موضوع صحفى مرتبط بحرية الصحافة أو الإعلام ولا أعتقد أن نقيبا مثل خالد البلشى يمكن أن تفوته هذه المسألة خاصة أننى أعرف حجم ما يحمله من تقدير للراحل الكبير.