أيام سعيدة في حياتي

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 - 6:30 م بتوقيت القاهرة

اليوم أستطيع أن أعرب عن اعتقادى أننى عشت حياة سعيدة. حياة تخللتها ولا شك أيام تعيسة أو لحظات صعبة أو حزينة أو حرجة، ولكن فى جملة المسيرة  أو فى حصيلة ما مررت به صعودا وانحدارا وبالمقارنة بما علمت عن تجارب فى الأهل وبين الأصدقاء ومن اطلعت على سيرهم من المشاهير والعامة وطبقا لمقاييس عديدة يجب أن أسجل أنها كانت سعيدة. ولكن ما دمت أتيت على ذكر التعاسة والحزن والصعوبة والحرج فى وصف أيام أو لحظات مرت بى أو عشت فيها أجد من واجبى أن أسجل أيضا أننى لا ألقى على زمانى مسئولية أى من هذه الأيام، فزمانى كزمان كل الناس كان مجرد شاهد غير منحاز. استضافنى لعقود عديدة فكان كريما ووفر لى أهلا طيبين وزوجة متفانية وذرية صالحة. كان سخيا فى كرمه.

• • •

أظن أن سعادتى بدأت مبكرا. أقول أظن لأننى أكتب عن طفل ما يزال فى مرحلة الرضاعة. قيل وتردد القول كثيرا أمامى وأنا أكبر سنا ومن مصادر كثيرة ومتنوعة أننى كنت طفلا يسعد إذا تعددت مرضعاته، يعرف كيف يسعى من أجل تحقيق هذا التعدد والمحافظة عليه، وكيف يبادلهن الرضا، وكيف يعبر عن اعترافه بجميلهن. قيل أيضا وتردد القول بأننى كنت من هواة الهواء الطلق خلال الرضاعة. فضلت دائما أن تقع الرضاعة خارج البيت وفى الليل وفى الهواء الطلق. سمعت أيضا عندما كبرت من بعض أهالى أصدقائى أن معظم فترات هدوئى وراحتى ونومى كرضيع كانت تبدأ بمسيرة يتبادل عليها متطوعون من الجنسين تقطع شارعنا ذهابا وإيابا خلال الساعات الأولى من الليل.

• • •

وقعت فى الحب ولم أتجاوز الثامنة من عمرى. تعاقد أهلى مع مدرسة فى مدرسة إبتدائية على ناصية شارعنا مع شارع خيرت. ساقها إلينا طموح أبى أن يقفز بى سنة دراسية أو أكثر فوق ما يسمح به عمرى. نجحت الفكرة وإن تسببت فى مشكلة التأقلم مع زملاء فى مختلف مراحل التعلم ومشكلة عند التقدم للعمل فى وزارة الخارجية. كانت معلمتى رائعة فى قدراتها الخاصة بالتعامل مع طفل فى الثامنة من عمره ثم وهو فى التاسعة. تعلقت بها حسب رواية والدتى لى فيما بعد. تعلقت إلى حد «مرضى» بمعنى الكلمة. قالت إن حرارتى كانت ترتفع إن غابت أبلة «عيشة» لدواعى السفر أو المرض. قيل أيضا إننى كنت أصر على ارتداء أفضل ما عندى وأقف على باب العمارة لاستقبالها عند وصولها. أعترف أننى ما زلت أتذكرها وأتذكر قدر سعادتى فى تلك الأيام، أسعد أيام طفولتى.

• • •

كانت مصر فى ذلك الحين فى موقع الحليف لبريطانيا العظمى، العلاقة التى جعلتنا هدفا لطائرات ألمانيا النازية. أذكر أنه خلال الغارات وبمجرد إطلاق صفارات الإنذار يوقظنا الأهل ونترك شقق السكنى بعد أن «نلتحف» بالبطاطين أو ملابس ثقيلة موجودة دائما بجانب باب الخروج لننزل بسرعة إلى الطابق الأرضى. هناك ننقسم فريقين، فريق الرجال يدلف إلى شقة على اليمين وفريق النساء يتوجه لشقة على يسار السلم، وعلى الفور ومع طلقات المدافع المضادة للطائرات ينطلق الدعاء وما زلت أذكره بلحنه المميز «يا نبى الألطاف نجنا مما نخاف». أما الأطفال، وأنا منهم،  فيقضون فى أحضان الأهل بعض الوقت كل حسب جنسه ليفترقوا بعد قليل عن الأهل ويخرجوا من الشقتين لنلعب على «البسطة» فى ظلام الليل الدامس، يزيده ظلمة السد الحجرى المشيد على باب العمارة ليحول دون وصول شظايا القنابل إلى الداخل. أذكر أننا كنا نبتكر لعبة جديدة فى كل غارة ونغضب بشدة عندما تطلق صفارات الأمان إيذانا بانتهاء الغارة وكذلك نهاية اللعب والسعادة التى ترافقه وإيذانا بضرورة العودة فورا للنوم.

• • •

لن أنسى بأى حال وتحت أى ظرف ليلة العرس. كنت فى الثانية وعشرين وكانت العروس على باب الثامنة عشرة. رأيت فى نظرات زوجات أكثر من خمسين سفير أجنبى والمئات من السياسيين الهنود نظرات فضول. كان هناك أيضا عشرات من شباب السلك الدبلوماسى. أتذكر أننى أكاد أكون رأيت وأنا أمشى بين المدعوين ومن خلفى يمشى زميلان بزى السهرة خيال أمى التى كانت تحلم بأن تعيش لترانى فى كوشة حفل زواج ودعاءها كدعاء أمها لى «ربنا يرزقك يا بنى بالزوجة المطيعة والذرية الصالحة». أتذكر العروس وقد شعرت بما يدور فى ذهنى فى تلك اللحظة ربما لأننى تعثرت فى مشيتى فهمست بكلمات تعنى بها أنها تتفهم. وللحق تفهمت وعاشت تتفهم. أمها أيضا ساهمت، تركت ضيوفها واقتربت لتمشى معنا إلى جانبى. ليلتها وطول عمرها كانت نعم النصير.

• • •

من صفاتى غير الطيبة أننى لم أكن أكشف عن سعادتى وفرحى أمام الناس حتى أقربهم. كان أبى يسعى بعلاقاته لمعرفة نتيجة امتحانات الشهادات قبل أن تباع فى عدد خاص لصحيفة يومية يصدر بعد ظهر يوم من أيام الصيف. أحيانا كان يحمل خبر النجاح ويستقل القطار ويأتى به خصيصا إلى سيدى بشر حيث كنا نقضى الصيف أو بعضا منه. كان الفرح من طبيعته وينقله للجميع. أتلقى الخبر السعيد بالرضا وإن لزم الأمر فبالأحضان التى فضلتها دائما كناقلة فرح وسعادة وحب. ذرفت الدمع مرة أخرى وأنا أتلقى شهادة الماجستير فى جامعة ماكجيل الكندية لأن أبى الذى اختار نجاحاتى ساحات لأحلامه فاتته هذه الفرصة.

• • •

صبى وابنتان وأحفاد سبعة وأولاد الأحفاد ثلاثة هم مصدر سعادة. هؤلاء عشيرتى أسعد لوجودهم فى حياتى وأشقى لمتاعبهم إن وجدت. كم تمنيت لو أن زوجتى، أى جدتهم، عاشت لتراهم، كما أراهم، كل يوم جمعة. يومها يحلو لى دائما أن أعود بالذاكرة إلى أيام شقيت، وشقيت هى معى، بسبب شقاوتهم، لتخلف الشقاوة والشقاء معا سعادة لا توصف ولا تنسى. 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved